يتخذ المخرج الإماراتي مسعود أمر الله موقعًا متميزًا في صناعة السينما العربية، فهو ليس واحدًا من رواد صناعة السينما والمهرجانات في الخليج فقط؛ بل هو أيضًا أب روحي لتلك الصناعة في بلدان الخليج العربي عمومًا وفي الإمارات على نحو خاص، مذ ترك عمله في شرطة دبي كباحث إعلامي، وانخرط في دراسة السينما بالولايات المتحدة، ثم عودته إلى بلاده لملاحقة شغفه بالأفلام، مخرجًا وكاتبًا وشاعرًا.
فاصلة التقت مسعود أمر الله، وحاورته عن السينما الخليجية والسعودية بشكل خاص، واستطلعت رأيه في بعض المخرجين اللامعين حاليًا، وأنصتنا إلى حديثه عن المهرجانات السينمائية العربية والتحديات التي تواجهها، باعتباره خبيرًا ورائدًا من رواد السينما الخليجية.
* كيف تصف عودة لقاء مهرجان السينما الخليجية وأثره في صناعة السينما؟
– إنها عودة حميدة بلا شك، لأن أي تجمع أو نشاط وحراك في دول مجلس التعاون هو في اعتقادي إثراء للتجربة، وفرصة لعرض النتائج. كما أنها فرصة لتبادل الخبرات وبناء المشروعات المشتركة. صانع الفيلم قد يطمح الى ما هو أكثر من اللقاءات التي تقدمها المهرجانات، لكنها قد تخلق فرصًا جديدة، وفي غيابها قتل للفرص.
وأتمنى أن تنطوي لقاءات السينما الخليجية على فرص حقيقية لصناع الأفلام، كي يستثمرونها في خلق مشروعات والبحث عن سبل تطويرها، وإيجاد صناديق الدعم. حصول هذه اللقاءات هو بالطبع أفضل من ألا تحدث.
* ما رأيك في توقف بعض المهرجانات مؤقتًا، نتيجة للأوضاع السياسية؟
– في اعتقادي أن العملية الثقافية يجب ألا تتوقف بشكل عام، مهما كانت الظروف. أعتبر الوعي الثقافي جزءًا من التعليم، فهل تتوقف المدارس إذا وقعت مشكلات سياسية؟
أنا مع الاستمرار، ذلك أن التعاطف شيء والواقع شيء آخر. أنا متعاطف مع كثير من القضايا ذات الطابع السياسي، وأرى أنني ربما اخدم تلك القضية أكثر إذا كنت مستمرًا في عملي. لذلك أنا مع مواصلة إقامة المهرجانات.
كل دورة مهرجان لها تحدياتها الخاصة، التي لا تشبه تحديات الدورات السابقة، وهذا ما لمسته بنفسي عندما كانت تعترضني مشكلات لم أكن أواجهها في دورات أخرى من قبل.
* تعاني بعض المهرجانات السينمائية العربية من ارتباك وعوائق تمويلية وإدارية، هل يفرض هذا تهديدًا بتوقفها؟
– أنا جربت هذه المسألة نحو 3 مرات في 3 مهرجانات مختلفة. والاستدامة هي العائق الأكبر للمشاريع الثقافية، وليس فقط المهرجانات الفنية. كل مشروع ثقافي مرتبط بأشخاص معينين وإدارة معينة، فعندما يتغير الأشخاص وتتبدل الأهداف يكون المشروع الثقافي هو الضحية.
المهرجانات السينمائية غير ربحية، ولا يمكنها استعادة الميزانية التي تُنفقها، لذلك قد تشكل بعد فترة عبئًا على الوزارات والجهات المنظمة. هكذا يتم التخلص من المشاريع الثقافية، وهذا عرف عالمي وليس عربيًّا فقط. فرنسا مثلًا هي أكبر داعم للأفلام، لكنها قررت خفض ميزانيات الدعم السينمائي، وقلصت الجهات التي كانت تدعمها.
* معنى ذلك أن السينما ليست أفضل استثمار مستقبلي؟
– لا، بالعكس. السينما استثمار مستقبلي. لكنني أتحدث عن المهرجانات لا عن صناعة السينما. المهرجانات لا مردود مادي لها، فكيف تستمر؟!
* هل يمكن الاستفادة من التجارب العالمية، مثل برلين وكان وفينيسيا والإستفادة من استدامتها؟
– العقليات هناك مختلفة، وكذلك التجربة والصناعة. كل شيء يختلف عما عندنا. هناك يوجد دعم من وزارات الثقافة، إضافة إلى الاستثمار الذي تتولاه أسواق السينما العالمية، مما يسمح بزيادة الدخل. المشهد هناك لا يشبه المشهد عندنا. هناك مثلا لا يوفرون إقامات كاملة للضيوف خلال أيام المهرجان، بعكس ما يحدث لدينا. فهناك عقلية مختلفة تمامًا، وتقاليد، بالإضافة إلى إرث تم البناء عليه، بعد تجارب كثيرة، بحيث طوروها واحتفظوا بالإيجابيات.
* مهرجان دبي السينمائي من أجمل تجاربك دوليًّا ووتوقف فجأة من دون مؤشرات مسبقة. هل كنت تشعر في 2017 أنها قد تكون الأخيرة؟
– أنا مثلك تمامًا متفاجئ، فأنا أرى المشروع الثقافي مشروعًا دائمًا، إذا لم يكن ثمة شك من البداية حول استدامته. والشكوك حول الاستمرار هي ما يجعل المشروع مهتزًا، وهي التي تفضي به إلى طريق مسدود، وكارثة. ثم إن الدفاع عن المشروع الثقافي يجب أن يكون من الجهات العليا حتى يتمكن من الاستمرار. ربط المشاريع بالمزاج وأمور اخرى خارجة عن صلب العمل الثقافي يجعلها عرضة للاختفاء السريع. مشاريعنا الثقافية، للأسف، غير دائمة ومرحلية.
* هل كان لتوقف المهرجانات تأثير سلبي على صناعة السينما الإماراتية؟
– لا شك في ذلك، لأن العملية مقلوبة.
للأسف في منطقتنا نضع العربة أمام الحصان، بمعنى أن فكرة إقامة مهرجان تأتي بعد أن يحصل حراك إنتاجي ضخم تريد تصفيته بإقامة المهرجانات.
* هل تتوقع مصيرًا مشابهًا لمهرجانات السينما الخليجية في السعودية؟
– لا أتمنى أن يحصل ذلك، ولا أريد أن طرح مثل هذا التساؤل، لأنه مُخيب لكل شيء إذا فكرنا فيه ووقعنا في فخه. أعتقد أن السعودية تحاول أن تلحق بـ140 سنة من تاريخ السينما، بقفزات وليس بخطوات، لتستفيد مما حدث خلال تلك السنوات، وهذا شيء شرعي. وأتمنى أن يكون مخططًا لذلك بفكر بعيد المدى وليس آنيًّا.
ما يضمن الاستدامة هو الفكر البعيد الأمد، أي أن ترى مثلًا إلى أين سيصل صندوق الدعم بعد 50 عامًا، وما عدد الأفلام التي تلقت الدعم منه. ذلك الفكر قد يعطيه الصندوق فرصة أن يظل على قيد الحياة، لأن لديه خطة بعيدة الأمد.
* هل من الممكن أن تعود المهرجانات في الإمارات؟
– بصفة شخصية، لا أعلم، لأنني فعليا خارج المشهد ككل.
* لمهرجانات السينما التي أُقيمت في الإمارات دور قوي في دعم الحركة السينمائية السعودية، مثل مجموعة «تلاشي» التي خرّجت أهم المخرجين. هل كنت ترى شيئًا مميزًا لدى هؤلاء الشباب؟
– مجموعة «تلاشي» حصلت على تنويه خاص للإيمان بتلك التجربة لأنها كانت تجربة فريدة ومميزة بعيدً عن دعمنا.
عندما تختار فيلمًا؛ فإنك تنظر إلى المفكر الذي يقف وراء صانع الفيلم وليس المنفذ. لا أقصد الأيديولوجيا، بل الوعي باستخدام أدوات السينما. فأنا أعرف من اختيار اللقطة ما إذا كان هذا المخرج على علم بأدواته أم لا. أعرف المخرج من اللقطة الأولى، وأعرف ما إذا كان ذلك يناسبني أم لا، وما إذا يجب أن أراهن عليه أم لا. في النهاية، صناعة السينما لها قواعد، وعلى ضوء هذه القواعد أقرأ تجربة مجموعة «تلاشي» التي قدمت الكثير والكثير بصريًّا فكانت الأكثر فرادة وتميزاً.
* ما الاسم الذي لفت انتباهك أكثر من غيره في ذلك الوقت من بين المخرجين السعوديين؟
– تصعب الإجابة. لكن محمد الظاهري أحد أجمل المفاجآت السينمائية بالنسبة لي، وكذلك عبد الله آل عياف، لكن الإثنين توقفا للأسف. كنت أشعر أنهما يحملان مشروعًا.
هناك أيضا عبد المحسن الضبعان وهيفاء المنصور، وكنت أراهن كثيرًا على هؤلاء. ففي مسابقة أفلام الإمارات بدأنا بالأفلام الإماراتية، ثم فُتح الباب للخليجيين، وكان أصحاب هؤلاء الأسماء هم أكثر من برزوا في وقتٍ كانت السينما غائبة وصعبة، ثم لفتتني بعض الأسماء من دول أخرى.
من الملاحظ أن بعض المناطق ليس فيها وجود للسينما والمهرجانات والمرجعية، لكن هناك شخص واعٍ ويمتلك أدوات لكنه لا يمتلك الخبرة، أي أنه مهيأ ليكون مخرجًا مستقبليًّا جيدًا جدًا ويمثل المكان. كنت أقول لو نراهن على مخرج واحد فقط من كل دولة خليجية فنحن بخير جدًا.
* كان لدى المخرجين السعوديين حلم الوصول إلى مهرجان «كان»، بعد مفاجأة فيلم «نورة» هذا العام. هل ترى أن هذا الاختيار مؤشرًا كافيًا على تطور السينما السعودية؟
– أي اختيار لفيلم، سواء من السعودية أو من دول الخليج، هو إنجاز في حد ذاته. هذا حدث يجب أن يُحتفى به. نراهن على أن السينما التي يقدمها هؤلاء الشباب تحمل أفقًا أبعد من المكان الذي خرجت منه. عندما تحدث طفرات، يجب أن تعمل على ألا تكون مجرد طفرات بل أن تتحول إلى شيء مستدام ودوري، مثل السينما الإيرانية والكورية، والصينية التي كان غيابها يشكل علامة استفهام.
* ألا تزال تسافر لمتابعة المهرجانات؟
– ليس كثيرًا كما اعتدت في السابق، لكني لا أزال أزور بعضها. آخر مهرجان حضرته كان مهرجان فينيسيا خلال جائحة كورونا.
* تفاءلنا عندما شاهدنا أحد أفلامك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي. هل هذا مؤشر على عودة للإبداع السينمائي بدلًا من الإدارة الفنية؟
– منذ زمن، كان تخطيطي الشخصي الابتعاد عن الفعل الإبداعي، والتركيز على الفعل الإداري، وكان توقف مهرجان دبي فرصة للعودة إلى العمل الحقيقي الذي بدأت منه. فأنا بدأت من الشعر واتجهت إلى الإخراج في السينما، وإلى المهرجانات السينمائية.
* ما هو المهرجان السينمائي الأول الذي حضرته؟
– لا أذكر، لكن علاقتي بالمهرجانات بدأت عام 1989. لا أدري إذا كان أول مهرجان هو مهرجان الفيلم العربي في باريس أم غيره. منذ عام 1991 بدأت حضور المهرجانات السينمائية واستمر ذلك إلى عام 2017. وكنت أذهب كصحافي في جريدة «البيان».
* كيف ترى مستقبل النقد العربي ومستقبل النقد السينمائي عمومًا؟
– طالما أن السينما حية، سيظل النقد مستمرًا بالتأكيد.
* وما رأيك في اتجاه المهرجانات للاهتمام بصناع المحتوى واليوتوبرز وإهمال النقاد المختصين؟
– هذا غير صحيح، فنحن ارتبطنا بالنقاد – لا أعلم إذا كان الجيل الحالي قد تغير أم لا-، وقد ارتبطنا بالسينما بفعل قراءة ما يكتبه النقاد، حيث كنا نبحث عن الأفلام التي يكتبون عنها، وكان لهم دور في توجيه المشاهد إلى نوعية معينة من السينما. إنها ظاهرة صحية أن يوجهك «يوتيوبر» إلى فيلم، وناقد إلى فيلم آخر من مدرسة مختلفة، فالتعددية هي إثراء.
* لمن كنت تقرأ في صغرك؟
من العرب، محمد رضا وإبراهيم العريس، وكان الأميركي روجر إيبرت يجعلني اكتشف الأفلام، والمخرجين، والمدارس. كانت تبدأ رحلة بحثي عندما يكتب عن فيلم.
* ما أبرز ذكرياتك مع الأفلام العربية في مهرجان كان أو دبي أو مع مخرجين بعينهم؟
– لا أذكر ذكريات مع مخرجين بعينهم، لكن المهرجانات منحتني فرصة الالتقاء بأسماء لم أكن أحلم بها، ولا بأن أجلس مع أحدهم يوما ما. وأسعد جدًا عندما أشاهد مخرجًا وصل لمكانة مرموقة وكانت بدايته من دبي السينمائي مثل المخرج عمر الزهيري مثلًا فأسعد بأن نكون – أول من آمن بتجربته ومشروعه. عليك أن تراهن على مثل تلك التجارب والمشاريع. هناك أسماء أخرى كانت تدهشني وتحرضني على المشاهدة.
* صناع السينما السعودية هم اليوم بين نارين؛ نار صنع أفلام على أمزجتهم، ونار صناعة أفلام للجمهور…
هذا هو الخطأ الأكبر، ألا يعلموا ماذا يريدون.
لكن الذهاب لشباك التذاكر والربح المادي مغري جدًا؟
– هذا قرار يعود إليك كمخرج صاحب وعي وأسلوب واتجاه. فإذا كنت قد اتخذت قرارا بأن تكون من فصيلة المخرج – المؤلف فهذا قرارك، أما إذا كان هناك شيء يغريك فأنت بلا قرار.
* هل ترى أن الجمهور يتحكم بالمخرج والسوق؟
– هذه هي الأكذوبة الكبيرة. فكرة «الجمهور عايز كده» هي أكذوبة كبيرة. كم نسبة الأغنياء والفقراء في العالم، وكذلك المتعلمين وغير المتعلمين، وكم نسبة محبي السينما وغير المحبين. تلك هي طبيعة الحياة، السائد هو البسيط والدارج.
فإذا كنت متصورًا أنني سأقدم فيلمًا فنيًّا عاليًا، وأتوقع وجوده في صالات السينما كافة، فهذا خطأ من البداية، وخطأ في التوجه. هل أنت مؤمن بأن تكون مخرجًا لامعًا ولك منجز فني سينمائي؟ أم أنك مهتم بالإيرادات؟ هذا قرارك. وعليك معرفة إلى أين ستذهب وماذا تختار.
اقرأ أيضا: فارس قدس: «أحلام العصر» تحدٍ جاء في وقته