كلما تقدم العِلم؛ ارتفعت أصوات المتشائمين باقتراب فناء الكوكب! فلا تزال تقاويمهم تتجدد كل مرة، ولكل أمة أو إثنية توقيتها لنهاية العالم، ولا أَشَهر من نبوءة حضارة المايا، وتوقيت نهاية العالم في الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين من ديسمبر عام 2012، فقد صحب هذا التوقيت صخباً كبيراً، وآزره الفيلم الذي يحمل رقم العام «2012» (2009) للمخرج رولاند إيمريش، ومن بطولة جون كيوزاك، وكأنه يبشر أو ينفر بهذه النهاية، بينما وجد مخرج الفيلم تاريخاً، ووظفه وفق المعطيات السينمائية التي تجد في هذه الفكرة مساحة خصبة للإثارة، وخرج بفيلم يعزف على وتر حساس لدى المشاهدين، فما أكثر الأفلام التي تعزف على هذا الوتر، وتربح؟ والمعطيات الأولية تشير آنذاك إلى نجاح يتكئ على تاريخ قريب في غضون ثلاث سنوات ما بين الإنتاج والنبوءة! في نهاية المطاف سيمر الحادي والعشرين من ديسمبر، وتُقلب الورقة لاستقبال ورقة يوم جديد، بل وتستبدل تقويم العام بآخر، ويمر عام تلو العام، دون أن يحدث شيء، حتى إبان وباء كورونا الذي رفع سقف الرهبة؛ مر بسلام على الكوكب، دون أن يفنى الكل ضارباً بالنبوءات عرض الحائط.
ديسمبر
الشهر الأخير من العام، والذي يأتي ختاماً لاستقبال عام جديد، بوابة النبوءات والتكهنات، فالمتشائمون لا يرون في الحاضر ما ينبئ بعام أجمل، وكأنهم يجدون في الفناء خلاص الكوكب، وليتهم اختصوا بذلك لأنفسهم! إن كان إبريل شهراً نترقب فيه الكذبة، فديسمبر عادة ما يكون الشهر الأكثر خصوبة لانطلاق الشائعات والتنبؤات، ولظهور الكثير من العرافين، والراجمين بالغيب، والعجيب أن أغلبهم يعودون للكتب الدينية، مثل ديفيد ميد الذي رجع لرموز رقمية في الإنجيل، وخلص إلى أن فناء العالم بكوكب نيبيرو سيكون عام 2017، ومر ذلك العام كما مر غيره دون أن يصل كوكب نيبيرو، أو يرحل كوكب الأرض!
الأجمل أن يأتي مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الرابعة بداية ديسمبر، متخذاً من السينما بوابة لاستثمار نهاية العالم في فيلمين مختلفين، وبرؤيتين متباينتين يجمعهما الحرب، واختلاف زاويا النظر.
حرب الخليج الثانية
يأتي فيلم «هوبال»(2024) للمخرج السعودي عبدالعزيز الشلاحي مستثمراً حرب الخليج الثانية وغزو العراق للكويت؛ بتوظيف بصري لأسرة سعودية اتخذت من الصحراء مهرباً لها من المدينة ودنسها، وللتبتل إلى الله، وترقب نهاية العالم بصفاء لم يتكدر بالعالم الحديث. السيناريو من كتابة مفرج المجفل، وأحداث الفيلم تدور بين أُسر متشابكة، وشخصيات متباينة، وإن اندرجت من الجَد ليام (الممثل إبراهيم الحساوي)، فعدد الشخصيات المندرجة من نسله تحتاج إلى قدر عالٍ من التركيز، بخاصة في بداية الفيلم، وحاجة المشاهد إلى دخول المكان المُعقد. الصعوبة لازمت الأحفاد في ترداد أسمائهم؛ حتى لا ينسون أصولهم! وصولاً إلى بادي والد الجَد ليام، وهي حالة عربية صرفة للاعتزاز بالجذور، مُذكّراً ببطل رواية (الحزام) لأحمد أبو دهمان وهو يسرد نسبه، فالتباهي بالنسب إلى أبعد من هذا السرد في شجرة الأسرة، وهذا ما يؤكد عليه الجَد، بتصاهر أولاده من بعضهم، وانتخاب الأصلح منهم كما هو حال كبيرهم «شنار» (يلعب دوره مشعل المطيري)، الظاهر تَديّنه وطاعته لوالده، وحفظه للقرآن، وتقدمه للإمامة في الصلاة! بينما هو أبعد عن كل ذلك عند مواجهته لأخيه ومنافسه «بتال» الذي يقوم بدوره الممثل حمدي الفريدي، والأقسى نفي «سطام» لأنه قَبِل بالعمل في المدينة، وخيبته عند عودته بعد الحرب، وإيمانه من خلال ما يتردد على المنابر، من كلام حول علامات قرب يوم القيامة، فقبل عودته يساوره شعور بمبالغة والده في تهويل أمر العلامات، وبعدها حين تظافرت الأقوال، ويسمع عن ذلك من المشايخ يتَيّقن أكثر!
الحرب الأوكرانية
يأتي فيلم «أنت الكون» (2024) للأوكراني بافلو أوستريكوف، ولعل القلق العالمي من احتمال استخدام السلاح النووي وصل ذروته بعد الحرب الروسية الأوكرانية، بعد التلويح بهذا الخيار الروسي لمواجهة الغرب، وعزم أوكرانيا بامتلاك سلاحاً مشابهاً. يجد الروس رد الفعل الأوكراني -ولو كلاماً- استفزازاً، بينما دخولهم إلى أوكرانيا حق مشروع! وأمام هذه الحرب التي طالت، ولم تصل إلى حل، فلا بد من حل سينمائي على أقل تقدير؛ لتوظيف الخيال الذي استبقه ألبرت أينشتاين عندما اعترف بأنه لا يعرف آنذاك عن صورة الأسلحة التي ستستخدم في الحرب العالمية الثالثة، ولكنه على يقين بأن الحرب العالمية الرابعة ستُحارب بالعصي والحجارة، وهو ما يفسر حجم الدمار الذي يمكن أن تسببه الحروب النووية، وفناء الكوكب بيد البشر، دون حاجة إلى كوكب نوبيبرو، أو فيروس يتفوق على كورونا 19.
يستبق فيلم «أنت الكون» بذكاء رحلة عامل وحيد في مركبة فضائية لا يؤنسه سوى الروبوت السمج ونكاته السخيفة، وهو يقوم بمهمته في التخلص من النفايات خارج الكوكب، والعودة كل مرة، ولكن المرة الأخيرة فقد العامل كوكب الأرض بخبر غير سار من الروبوت الذي لا يُحسن نقل الأخبار السيئة! هذا ما حدث، فالأرض غير موجودة على خارطة المجرة، فماذا على آخر رجل في المجرة أن يفعله بعد اليوم؟ عالج الفيلم الأحداث بذكاء، وسار في سرد حكائي لرحلة مملة، ولكنها مليئة بالأحداث، فالسجال ما بين البطل والروبوت لا يدع لك فرصة للخروج من الفيلم، وهذا تحد كبير، فالفيلم قائم على فرد في مكان واحد، لا شريك له سوى ثلاثة أصوات: (المتحدث من الأرض بداية الفيلم، والروبوت السخيف، وكاثرين شريكته في البقاء بالقرب من عطارد)، ومع ذلك ينجح في ملء فضاء الفيلم. تستمر الأحداث في توتر بالغ ما بين تجاهل البطل لكاثرين ابتداءً، مروراً بالتعلق بها بوصفها الأنثى الوحيدة في هذا الكون من خلال صوتها، هذا التعلق قاده إلى صناعة تمثال وجهها بيديه من خلال توصيفها لنفسها، وصولاً إلى الانكسار الذي حدث عندما أخبره الروبوت بأنها ليست سوى روبوت آخر في مركبة أخرى، وصولا إلى النهاية التراجيدية التي يتفق الفيلمان عليها.
لا مفر
لم يكتفِ الفيلمان على توظيفهما لنهاية العالم موضوعاً محبباً للاشتغال عليه، وتصديق النهاية بفناء الكوكب في فيلم «أنت الكون»، وتكذيبها بالحفاظ على الكوكب في «هوبال» دون تدميره! يبدو أن بقاء ناجين لا يشفي، فما دام هناك ما يُسلي ببقاء ناجٍ على الأقل؛ حتى في «أنت الكون»، فلا مناص من خاتمة بائسة على صعيد الشخصيات، والتضحية بمن تعلق المُشاهدون بهم، فعلى القليل لا بأس من تراجيديا ترافق المُشاهد بفقد من أحب في الفيلم لتطهيره! فإن سلم الكوكب؛ فلا أقل من أن نخسر من نُحب! كما هو حال بطل رواية «آلة الزمن» لهيربرت جورج ويلز، يوم أن غاب ولم يعد، فلا فائدة مرجوة من انتظاره، كما هو الحال في شأن «ليام» الذي اختفى، ولا يعلم أحد أين ذهب؟ ما عدا عساف بن ماجد الذي رآه في حلمه الفانتازي بعد سماعه بالدحل (الحفرة الغائرة في الأرض)، الدحل الذي يتكون بعد سقوط الشهب كما سمع من أجداده، أو تكذيب هذه الصورة كما تعلم من الأستاذ، والحقيقة ولا حقيقة للحقيقة أن أقرب الصور في غياب جَده ليام ما رآه في حلمه شامخاً بالهوبال ومنادياً على جِمال ذات سيقان طويلة، وفي مكان لا يشبه هذا المكان.
خاتمة
في نهاية رواية «آلة الزمن» جاء تعليق من يسمع القصة من شخصياتها بأنها «أكذوبة مصطنعة»، أما السارد فلم يحسم موقفه منها، فـ «هي خيالية لا يصدقها عقل، غير أنها سُردت على نحو شديد الإقناع»، وهذا موقف المُشاهد الذي يأتي ويترقب هذا النحو من السرد الشديد الإقناع، لكي يخرج موقناً بأنه سيُفنى، ولكن ليس بالصورة التي يقدمها له المتشائمون، ففي الحياة فُسحة من الأفلام والأحلام.
اقرأ أيضا: «هوبال».. تفكيك نفسية الطائفة وثمن الجاذبية المرتفع