فاصلة

مراجعات

«هوبال».. تفكيك نفسية الطائفة وثمن الجاذبية المرتفع

Reading Time: 6 minutes

إذا ما سمعت قصة موضوعها الرئيسي عن فتاة مصابة بمرض الحصبة الذي يكاد ينهي حياتها لعدم توافر علاج، ستفترض في الأغلب أن الأحداث تدور في ماضٍ سحيق، قبل اكتشاف مصل الغلوبيولين المناعي الذي بدأ استخدامه لعلاج المرض منذ ثلاثينيات القرن العشرين. لكن عندما تُخبرك عناوين الفيلم أننا نتحدث عن السعودية عام 1990، من هنا تبدأ الجاذبية في «هوبال»، أحدث أفلام المخرج عبد العزيز الشلاحي.

أسباب ترقب الفيلم كثيرة، على رأسها كونه أول أفلام المخرج منذ فيلمه الرائع «حد الطار» الذي قدمه عام 2020 ليصير واحدًا من أفضل الأفلام السعودية على الإطلاق، واستمرار للشراكة مع المؤلف الموهوب مفرج المجفل الذي كتب الفيلمين، وأول ظهور للمخرج بعدما أنجز مسلسل «خيوط المعازيب» الذي أعاد ترتيب أوراق الدراما السعودية في شهر رمضان الماضي، مقدمًا حكاية ذات طابع روائي سينمائي، مستمد بالكامل من التراث الثقافي لمنطقة الإحساء العريقة التي نادرًا ما شوهدت على الشاشات.

فيلم («حد الطار»، 2020)
فيلم («حد الطار»، 2020)

إذا أضفنا لذلك موضوع «هوبال» المأخوذ عن قصة حقيقية، وقعت مطلع التسعينيات عندما آمن كبير عائلة أن نهاية الزمان قد اقتربت، وأن الساعة على وشك القيام، فقرر أخذ عائلته بالكامل إلى الصحراء واعتزال الحياة المعاصرة الكافرة، بل ومقاطعة من يجرؤ من أبنائه على أن يتمرد على قراره أو يتواصل بأي صورة مع العالم المعاصر.

ربما يكون هذا الملخص هو أقوى نقطة انطلاق امتلكها فيلم عربي خلال العقد الحالي عمومًا، فلا أذكر فيلمًا يمكن لموضوعه أن يكون جاذبًا بهذا القدر في صورته المجردة. لكن التحدي الذي يفرضه اختيار أي حكاية ذات قصة فائقة الجاذبية (ما يُسمى في علم السيناريو High Concept) يتمثل في أن يأتي الفيلم مكافئًا للتوقعات الدرامية التي يفرضها ملخصه، وكأن صانع الفيلم يُلزم نفسه بأن يأتي بعمل يناظر جاذبية الفكرة، وإلا تكون النتائج محبطة مهما ارتفع مستواها عن أفلام أخرى. 

فأين يقع فيلم عبد العزيز الشلاحي على هذا الميزان الممتد بين الروعة والرداءة؟ هذا ما سنحاول التفكير فيه خلال هذا المقال.

فيلم («هوبال»، 2024)
فيلم («هوبال»، 2024)

إحكام بصري وتعقد بشري

يرسم الشلاحي عالم «هوبال» البصري بإحكام مُذهل، ليقدم مع مدير التصوير محمود يوسف لوحة سينمائية لا تكتفي بالجماليات الواضحة (رغم صعوبة التصوير في الصحراء عمومًا)، وإنما يمتد أثرها إلى الدراما، برسم هذا العالم الهجين الذي يجتمع فيه الماضي والحاضر معًا: بشر يحاولون العيش بقواعد عمرها قرون بينما حياتهم ترتبط رغمًا عنهم بتقنيات العصر. فيمكن للجد ليام (إبراهيم الحساوي) أن يرفض علاج الكفار ويضحي بأحد الأحفاد ليكون مضربًا للمثل، لكنه لن يستغنى أبدًا عن شاحنة نقل المياه التي لن تستمر الحياة دونها، ولن يمكنه في 1990 أن يُنقّب عن حفنة مياه كما كان الأسلاف يفعلون.

يتضافر عنصرا الصورة وبناء الشخصيات هنا لتعميق تلك المفارقة التي قد لا ندرك للوهلة الأولى مدى آنيتها. المفارقة بين السعي للقطيعة مع الحاضر واستحالة التخلي عن أدواته. قد يبدو الأمر بعيدًا عندما نفكر في رجل مهووس هرب بعائلته في التسعينيات، لكن لنفكر فيمن يفعلونها يوميًا بصورة أقل تطرفًا: من يسبون الحداثة ويلعنون الحضارة ويحاولون فرض الماضوية عبر أدوات بعد حداثية؟ هل تذكر هذا الشيخ الذي يبث مقاطعه عبر كل منصات التواصل الاجتماعي ليطالب أتباعه بمجافاة عصرهم والاحتماء بما مضى؟ يُمكنك إن فكرت قليلًا أن تراه في أحكام ليام غير المنطقية.

فيلم («هوبال»، 2024)
فيلم («هوبال»، 2024)

يكشف النص هنا (على الأقل في تأسيس وتمايز الشخصيات) عن الحاجات النفسية التي تقف وراء أحكام الجد، ووراء انصياع أو تمرد الأبناء والأحفاد عليها. بل يحاول أن يفكك الديناميات النفسية التي تحرك أي طائفة Cult ذات طابع عقائدي في التاريخ المعاصر: المؤسس الذي يلوذ بالأسطورة ليكوّن سلطة لا يملك أدوات حيازتها في الظروف الطبيعية، والأتباع المنقسمين بين بسيط العقل يؤمن بدافع الحب، وبراغماتي يجدها فرصة سانحة للاستفادة، وضعيف غير مقتنع لكنه لا يرغب في مواجهة الكل، ومتمردين يُحكم عليهم بأن يعيشوا ملعونين من أقرب الناس إليهم، فقط لأنهم امتلكوا الشجاعة لأن يكونوا كالطفل الذي خالف الجميع وقال «لكني أرى الامبراطور عاريًا»، في حكاية الدنماركي هانس كريستيان أندرسن الشهيرة.

أسطورة الإمبراطور العاري
أسطورة الإمبراطور العاري

معضلة فك الشفرات

غير أن قيمة الأفكار التي يحملها «هوبال» تتصادم مع معضلتين في تلقي الفيلم، ربما كان لهما دورًا في أن يكتفي صناعه بالاحتفال بعرضه العالمي الأول في قسم غير تنافسي بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، بينما كان الفيلم يمتلك على مستوى الموضوع والعناصر ما يكفل له عرضًا أول أكبر في أحد المهرجانات الرئيسية.

المعضلة الأولى هي التشابك الشديد للشخصيات لحظة بدء الأحداث. نظريًا، اختار المؤلف والمخرج نقطة بداية ساخنة تقع في مطلع الفصل الثالث من تجربة تلك العائلة إذا ما رتبنا وقائع الماضي زمنيًا. فإذا كان الفصل الأول يبدأ بقرار الجد بالهجرة للصحراء، والثاني بقرار أحد الأبناء أن يتمرد ويترك الجميع، فإن مرض الحفيدة يُشكل مطلع الفصل الختامي الذي تنتهي فيه التجربة كلها.

بالمعايير النظرية قد تكون هذه نقطة انطلاق مثالية، لكن حقيقة الأمر أن الفيلم يضع مُشاهده من اللحظة الأولى في متاهة كبيرة، تختلط فيها الشخصيات والأسماء والعلاقات، فنحتاج وقتًا حتى نكتشف مَنْ زوجة مَنْ، ومَنْ ابن مَنْ، ثم وقتًا آخر لنلاحظ الفروقات بين تكوين الشخصيات، ثم ثالثًا لنفهم وقائع الماضي التي وصلت بالجميع إلى تلك النقطة، فلا يحدث ذلك إلا بانتصاف زمن الفيلم تقريبًا.

فيلم («هوبال»، 2024)
فيلم («هوبال»، 2024)

لا توجد أزمة بطبيعة الحال في انتهاج سردٍ غير معتاد، بل على النقيض فإن عرض القصة بترتيبها المنطقي كان سيحولها قصة طائفة أخرى كالتي تحترف شبكة «نتفليكس» تقديمها في المسلسلات، لكن الأمر يحتاج لضبط دقيق حتى لا يتسبب التعقيد في غموض زائد يُصعّب تجربة المشاهدة، ويحوّل نشاط الجمهور العقلي من التفكير فيما يطرحه صانع الفيلم من أفكار عميقة إلى محاولة فك الشفرة وسد الفراغات وفهم القصة في مستواها الأول.

تجدر الإشارة هنا لأن الأمر قد يكون مرتبطًا بثقافة كاتب السطور التي تختلف نسبيًا عن صنّاع الفيلم، فقد يكون فارق اللهجات أو تفسير بعض الإشارات سببًا في الأزمة (التي تكررت خلال مشاهدتين للفيلم)، وأن مشاهدًا سعوديًا قد يفهم العلاقات بشكل أيسر وأسرع، لكنها نفس الأسباب التي جعلت في الأغلب هذا الفيلم القيم لا يجد مساحة للعرض على جمهور دولي واسع في مهرجان أوروبي.

فيلم («هوبال»، 2024)
فيلم («هوبال»، 2024)

الشخصيات كاستعارات

المشكلة الثانية تتعلق بالفصل الختامي للفيلم، والذي ينحاز إلى الأفكار على حساب الحكاية. لن نُسهب في الشرح حتى لا نكشف الأحداث أو نفسد تجربة المُشاهدة على من يقرأ المقال، لكن من المعلوم بداهةً أن التجربة ستبوء بالفشل وأن أحكام ليام ستسقط عاجلًا أم آجلًا، لكن المسار الذي سيُنهيها هو الموضوع.

مفرج المجفل وعبد العزيز الشلاحي يختاران أن يكون «هوبال» استعارةً، أن تحمل مصائر أبطالنا رؤية لسيرورة تاريخية حتمية، يتمكن فيها الأحفاد من كسر استسلام الآباء، والتحرر من هوس الأجداد، لكن بعد أن يدفعوا ثمنًا غاليًا جرّاء ما اقترفه أسلافهم، حتى لو اقترن هذا الاختيار الفني بعدم إغلاق بعض الأقواس دراميًا، أو باختفاء شخصية رئيسية بشكلٍ مباغت لا يُمكن تفسيره إلا بمنطق الحلم، أو بالانحياز لنهاية تبدو أقرب لمَثَلٍ يُضرب من حكاية تُغلق عضويًا. وإذا كانت المفارقات حاضرة في حياة البشر عمومًا، فإن حكايتنا قد بدأت بقرار كبير، وكانت تستحق ألا تنتهي بمفارقة.

في سياقٍ آخر كان من الممكن تَقَبُّل هذه النهاية لو كان الفيلم قد منحنا الوقت الكافي لتلقي شخصياته كاستعارات ووضع كل منهما في موضعٍ فكري يلائمها، لكن التعقُّد الذي يلامس التغريب في نصف الفيلم الأول يجعلنا أمام تجربة مشاهدة مُقسّمة إلى ثلاث فترات: في الأولى نحتار لفك الشفرة وفهم الحكاية وأبطالها، الثانية نفهم أخيرًا ونبدأ في التماهي مع هؤلاء البشر وتعقدهم، قبل أن تأتي الثالثة لتتجاوز التعقد وتتعامل معهم كرموز، يُمثّل كلٌ منها تيارًا أو نوعًا من البشر في تجربة الطائفة، وهو تبسيطٍ مُخلٍ لما نسجه صنّاع الفيلم أنفسهم من تركيب إنساني يميز أبطال حكايتهم.

فيلم («هوبال»، 2024)
فيلم («هوبال»، 2024)

وفي النهاية

رغم المعضلتين، يبقى «هوبال» فيلمًا كبيرًا، في جديته التي لا تأتي إلا من صنّاع لا يتعاملون مع فنهم أو تراثهم باستهانة، في جودة عناصره التي تجعله واحدًا من أمتع التجارب البصرية الحديثة في السينما العربية، ومن هفواته التي تليق بقيمته، فهي هفوات من يريد أن يصنع فيلمًا حقيقيًا مغايرًا، فإن أصاب له أجران، وإن أخطأ له التقدير ولنا الحسرة على تجربة كانت كل عناصرها قادرة على إنجاز ما هو أكثر اكتمالًا.

اقرأ أيضا: «سلمى وقمر»… من منهما أضاء الآخر؟

شارك هذا المنشور