نال المخرج الإسباني الشهير بدرو ألمودوفار «الأسد الذهبي» عن فيلمه الأحدث، «الغرفة المجاورة»، في ختام الدورة الحادية والثمانين لـ«موسترا» البندقية. هذه أول جائزة مرموقة تُسند إليه في أحد المهرجانات الثلاثة الكبرى، أي برلين، كانّ والبندقية. إنه اعتراف على نطاق دولي واسع لطالما سعى إليه هذا الفنّان المتحدّر من تيار الموفيدا المدريدي الذي واكب مرحلة الانتقال من الفاشية إلى الحرية، وكان هو، آنذاك، في الثلاثينات.
مشاركاته الست في مهرجان كانّ من دون أن يظفر يوماً بـ«سعفته»، تركت في فمه طعماً مراً. مع ذلك، لا يمكن أن ننكر أهمية كانّ في تكريسه. كلّ هذه المشاركات الكانية لم تأته إلا بجائزتين، إحداهما تلك التي نالها عن «كلّ شيء عن أمي». ومع أنه كان فاز بجائزة السيناريو في البندقية نهاية الثمانينات مع «نساء على حافة الانهيار العصبي»، إلا أنه ابتعد عن التظاهرة الفينيسية كثيراً، ولم يعد إلى حضنها إلا خلال الجائحة، في العام 2020، مع «أمّهات موازيات» الذي أقل ما يُمكن القول فيه أنه من أعماله التي يمكن نسيانها بسهولة.
اليوم، أرادت لجنة تحكيم البندقية برئاسة الممثّلة الفرنسية إيزابيل أوبير صناعة لحظة سيظل ألمودوفار يتذكّرها إلى الأبد لأنها رسمت له شأناً وسط 20 فيلماً نافسها، ومن بينها تحفة الأميركي برادي كوربيت البصرية، «الوحشي»، التي توقّع كثر ألا يخرج من المنافسة بأقل من الجائزة الكبرى. لكن، لنكن موضوعيين: هل هذه الجائزة هي عن أفضل ما أنجزه المعلّم الإسباني في حياته؟ لعله من الأنسب الحديث عن تكريم عن مجمل أعماله، إذ من الصعب فصل أحدث ما يقدّمه السينمائي عن تاريخه الطويل، وكثيراً ما استُدرج المحكّمون إلى هذا الفخ.
طبعاً، يجب ان يتوفّر حد أدنى من الإعجاب بالعمل. فعندما أعطى مارتن سكورسيزي «السعفة» لثيو أنغلوبولوس عن «الأبدية ويوم»، إنما كان تعويضاً غير معلن عن محاولات عدة له لاقتناصها من خلال أفلامه الأهم. هذا كله يعطي الشعور بأننا أمام نسخة متطرفة لـ«سياسة المؤلفين» (مدرسة في النقد) التي تعود على شكل جوائز، وهي تعتبر ان فيلماً عادياً لمخرج كبير أفضل من فيلم كبير لمخرج عادي. بمعنى أننا سنجد دائماً في فيلم المخرج الكبير بقايا من أعظم ما أنجزه.
وهذا ينسحب على قراءتنا لـ«الغرفة المجاورة»، إذ يمكن مقاربته بأنه فيلم ألمودوفاري من دون أن يكونه فعلاً. حمله إلى بلد آخر (أميركا) ولغة أخرى (الإنكليزية)، حيث عالمان يتصارعان، ذلك الذي يذعن إليه المخرج على الفور، وذلك الذي يحاول تطويعه، محقّقاً بعض النجاحات الطفيفة هنا وبعض الإخفاقات الكبيرة هناك.
في النهاية، يمكن الادعاء مع بعض المبالغة، بأن هذا فيلم غير موجود إلا في مخيلة المخرج، أقله في ما يتعلّق بموضوع «الموت الرحيم» الذي يتناوله على نحو عرضي. شأنه شأن الغرفة المجاورة التي هي في الحقيقة، غرفة سفلية. ففور وصول الشخصية التي من المفترض أن تشغلها، تختار غرفة أخرى في بيت واسع غير ذلك الذي يقترحها العنوان بحجّة أنها «صغيرة». إذاً، تبتعد الغرفة عن الغرفة المجاورة لأسباب محض جمالية. من المعلوم أن أكثر ما يشغل ألمودوفار هو الجماليات. كلّ خطاب يجب أن يقابله ما يجعله مقبولاً للعين، وإلا «تباً للسينما»! «الغرفة المجاورة» لا يشذ عن هذا المبدأ.
العلاقة بين تيلدا سوينتون وألمودوفار التي بدأت مع «الصوت الإنساني» (أفلمة لمسرحية كتبها جان كوكتو) تبلورت وامتدت إلى فيلم جديد يوضّح مرة جديدة حجم الاهتمام الذي يعطيه المعلّم للممثّلات وما يجسّدن في وجدانه. ألمودوفار لا يستطيع تصوير واحدة منهن إذا لم يشعر حيالها بحبّ، أقله بودّ. وهذا ما يحدث مع سوينتون، التي ترافقها هنا جوليان مور في أول تسلل لها إلى عالمه.
كلتاهما سترويان الغياب على طريقة ألمودوفار، أي من دون بثّ أي إحساس بأن الموت هو النهاية. فإذا كان الوصول إلى العالم يتحقّق بلا استئذان، فلماذا على المغادرة ان تكون صاخبة؟ انطلاقاً من هذا، سنشهد على الرحيل الهادئ الذي قررته سيدة (سوينتون) مصابة بالسرطان ولا أمل من شفائها.
سنناقش أشياء من أكثرها عاديةً إلى أبعدها فلسفةً وشعراً (مروراً بجيمس جويس) ونحن نستعد للحظة المغادرة التي تحضر لها سوينتون بعدما عرضت على صديقتها (مور) أن تبقى بالقرب منها عند لحظة العبور. لا تريد منها شيئاً سوى معرفة بوجودها هنا، في الغرفة المجاورة.
يتناول ألمودوفار موضوع الموت الرحيم عندما يستحيل الاستمرار في الحياة، لكن من دون أن يسمّيه ويتعامل معه كفكرة يحارب من أجلها. لا يريد فيلماً ملفّاً، أو مرجعياً، أو حتى فيلم قضية. فما أبشع هذه الكلمة عندما يُزَج بها في بيئته السينمائية حيث الأشياء تحدث من دون سبب وجيه في الكثير من الأحيان.
القضايا لا تشبه ألمودوفار ولا أفلامه. لذلك، يحرص على أن يقحم الموضوع إلى داخل إحساس المشاهد، من دون أن يحمل تعريفات جاهزة، ما عدا في الخاتمة حيث الشرطي المحقق يأتي محمّلاً سلطته وفكره المعلّب الذي لا يقبل الطعن، محاولاً فرضه باسم القانون والأخلاق والصواب.
لشخصية سوينتون ماضٍ مضطرب يلقي بظلاله على واقعها، ويتحلّق حول شخصين: الرجل الذي تخلّى عنها، والابنة التي أنجبتها منه والتي لم تعرف والدها، والأخيرة تلوم والدته على ذلك من دون ان تعلم التفاصيل. هذه حبكة متداخلة، ثانوية، تتصدّرها أحياناً، تعود من خلال جملة استعادات زمنية (أضعف ما في الفيلم).
أما الابنة، فلن نراها الا في الخاتمة عندما ستغدو مناسبة لألمودوفار ليتناول تيمة أخرى عزيزة عليه، وهي الثنائيات: فالأم والابنة تشبهان الواحدة منهما الأخرى كحبّتي ماء، إلى درجة أن سوينتون هي التي ستلعب الدورين. مع ذلك، كلّ شيء يفرقهما، الماضي والحاضر والمستقبل.
رغم هذا كله، يصعب اعتبار «الغرفة المجاورة» أفضل أفلام ألمودوفار، فتجربته غير الإسبانية ما هي سوى «نصف ناجحة»، ولأسباب عديدة أولها أن هذه الحكاية كلها، وللأسف، لا تولّد مشاعر تتحوّل في داخل المُشاهد إلى انفعالات. جبال تفصلنا عنها أحياناً. ربما لأن المخرج، خلافاً لسينماه التي تستثمر في فيض المشاعر، يتعامل هذه المرة مع الأشياء بخفّة، وهذا النمط فيه ما هو إيجابي وما هو ضار.
الموت على ما يبدو ما عاد ذا رهبة، والحديث عنه ما هو سوى علاج، يتلقّاه كمسألة وقت لا أكثر. الأشياء كلينيكية أكثر ممّا يجب، لا شيء يفلت من يد السيدة التي تستعد للرحيل، فتصل الأشياء في الأخير إلى النقطة المتوقّعة.
أما العلّة الثانية، فهي بعض الخيوط الثانوية، كحرب العراق التي نرى سوينتون تغطّيها مع زميلها، ممّا يحملنا إلى أضعف لحظات الفيلم. لا نقتنع انها تأتي من خلفية صحافية مثلما نبذل الكثير من الجهد لنسلّم بفكرة أن جوليان مور كاتبة. كان يحتاج الأمر إلى أكثر من مشهد نراها فيه تكتب وهي جالسة أمام حاسوبها.
اقرأ أيضا: تفاصيل ختام وجوائز الدورة 81 من مهرجان البندقية السينمائي