تعدو السينما السعودية بلا توقف من أجل تعويض ما فات فنانيها في سنوات الغياب. فبعد ظهور لفت الأنظار بفيلمين في دورة مهرجان تورنتو الفائتة: “ناقة” لمشعل الجاسر و”مندوب الليل” لعلي الكلثمي، حان موعد المشاركة في أكبر وأهم المهرجانات السينمائية العالمية، وهو مهرجان كان في دورته السابعة والسبعين.
للمرة الأولى تشارك السعودية في ثاني أهم مسابقات كان بعد المسابقة الرسمية الكبرى، وهي مسابقة “نظرة ما” Un Certain Regard التي اختارت الإدارة الفنية لـ كان أن ينافس فيها الفيلم السعوي “نورة” للمخرج توفيق الزايدي، ليشهد عرضه الدولي الأول بعد أن افتتح عروضه العالمية العام الماضي في مهرجان البحر الأحمر، وفي استثناء نادر من مهرجان كان أن يقبل بعرض دولي وليس عالميّ أول.
وجود عبارة “أول فيلم سعودي في مهرجان كان” يضيف ثقلًا كبيرًا للفيلم وصناعه، بل إنه منذ عدة ساعات حصل أيضًا على تنويه خاص من لجنة تحكيم المسابقة. إذن سيشاهده الكثيرون، ليس بصفته فقط أحد أفلام المهرجان أو مسابقة “نظرة ما”؛ ولكن بصفته الفيلم الذي يعبر عن السينما السعودية ككل، وهي مسؤولية كبيرة بالفعل إن وضعت على عاتق أي فيلم، فكيف كان الحال مع “نورة”؟
تدور أحداث الفيلم في إحدى القرى النائية في المملكة العربية السعودية في النصف الثاني من التسعينيات، حيث يصل المدرس الجديد نادر (يعقوب الفرحان) لتعليم أبناء القرية، بينما نتابع الفتاة الشابة/المراهقة نورة (ماريا بحراوي) التي تحيا مع عمتها بعد رحيل والديها، والتي ينطبق عليها ما ينطبق على جميع نساء القرية، إذ لا تخرج من البيت إلا للضرورة مع الالتزام بارتداء النقاب، ولكن نورة تختلف عن الباقيات في كونها تتابع المجلات الفنية التي تحصل عليها خلسة، وتجد في المدرّس منفذًا لتحقيق أحلامها.
منذ لقطات الفيلم الأولى يمكن أن نشاهد اهتمام المخرج بكل التفاصيل الفنية التي تتعلق بجماليات الصورة، مع استخدام ألوان مميزة تتماشى مع البيئة الصحراوية المسيطرة على المكان بطبيعة الحال.
تُطهى شخصيات وأحداث الفيلم على مهل، لكن دون ملل، ويبدو المخرج متأثرًا بشكل ما بالسينما الإيرانية خاصة في مشاهد المدرسة التي تذكرنا بفيلم “أين منزل صديقي؟” لعباس كياروستامي (1987).
وعندما نقول المدرسة فإننا نبالغ نسبيًا إذ أن الأمر لا يعدو مجرد فصل واحد يضم أولاد الرعاة وسكان القرية، هؤلاء الذين يوافقون على حصول أبنائهم على قسط من التعليم.
كانت مشاهد المدرسة/الفصل من أفضل ما في الفيلم، إذ يظهر فيها الكثير مما أراد المخرج قوله ببساطة، سواء في عدم اهتمام أغلب الأهالي – في تلك الفترة وذلك المكان- بأكثر من تعليم أولادهم بعض المهارات الأساسية من الحساب والقراءة، أو في اختفاء بعض الأطفال فجأة من الفصل لأن الأهل قرروا أن حتى هذه المهارات ليست مهمة والأفضل أن ينضم الابن لوالده في رعاية الغنم.
يبدو واضحًا أن المخرج يستعرض مرحلة قريبة من التاريخ السعودي المعاصر، ولكن المدرسة كانت مجرد نقطة ثانوية في ما أراد أن يسرده، إذ يتوقف بالأحرى عند نورة التي تمثل الفتيات السعوديات في مرحلة التزمّت الشديدة. تعرف هذه الفتاة الحالمة عن طريق أخيها التلميذ لدى الأستاذ نادر، أن هذا الأخير يجيد الرسم وهكذا تطلب منه أن يرسمها، ليجد كل منهما في الآخر شيئًا كان يحتاجه، هي ستحقق حلمها في وجود صورة لها، وهو يحفز خياله، بينما يجد أهل القرية فيهما خارجان على كل المبادئ والأعراف.
لكن ما يقدمه المخرج كأساس لسريان الأحداث في فيلمه، يصبح في الآن ذاته المأخذ الأكبر على الفيلم. فمنذ الدقائق الأولى يمكننا أن نستنتج إلى أين ستذهب الأحداث، وربما لا يكون هذا بمثابة مشكلة في بعض الأفلام التي لا ننتظر منها مفاجآت في القصة بل نكتفي بمتابعة الشخصيات التي تحرك الأحداث، ولكن في ”نورة“ لا تبدو الشخصيات قادرة في حد ذاتها على الإتيان بجديد، بخلاف ما يمكن مشاهدته في أفلام مشابهة، فالمدرس مثالي جدًا، ونورة حالمة جدًا، وكبير القرية أبو سالم (عبد الله السدحان) قاسٍ جدًا. هكذا تفتقر الشخصيات للأبعاد التي يمكن أن تصنع صراعًا يعزز من الدراما في الفيلم، أو اختلافًا يميزه.
تذكرنا مغامرة الأستاذ في رسم نورة ولو من بعيد بفيلم” Portrait of a Lady on Fire“ (لوحة لامرأة تشتعل) إخراج سيلين سياما (2019). ولكن الفيلم الفرنسي، الذي أيضًا يمكن استنتاج سير أحداثه، حمل الكثير من التفاصيل داخل الشخصيتين الرئيستين مما جعل منه فيلمًا استثنائيًا.
كذلك عندما نضع الفيلم في سياق الأفلام السعودية الأخرى، فإننا سنجد في “ناقة” مثلًا الكثير مما أراد “نورة” أن يقوله عن قيود المجتمع السعودي على المرأة. ولكن في الفيلم الأول طُرحت الكثير من الأفكار بشكل غير اعتيادي وغير متوقع، لا للمشاهد السعودي الذي يعلم طبيعة الأمور في بلده ولا لغيره الذي يسمع عنها فقط ولم يرها على الطبيعة. بينما في “نورة” فإن السيناريو ربما احتاج إلى طبقة أخرى من العمق تُضاف إلى أحداثه وشخصياته لتصنع عنصر المفاجأة للمشاهد، أو للدقة احتاج أن يضيف شيئًا سعوديًا لا يمكن أن نجده في غيره من الأفلام.
فيلم “نورة” هو شهادة ميلاد لمخرج ذي ملكات بصرية واضحة، ونجد هذا في كل لقطة، لكنه احتاج إلى المزيد من العناية في السيناريو، وفي جميع الأحوال سيظل إلى الأبد “أول فيلم سعودي في مهرجان كان”.
اقرأ أيضا: مخرجا «رفعت عيني للسما»: فيلمنا ينحاز للأحلام لكنه يلتزم الواقعية