فاصلة

مراجعات

«نسور الجمهورية».. مراهقة سياسية وسينما ناقصة

Reading Time: 3 minutes

 أفلام عدّة تحاول الانقضاض على السلطة السياسية في مسابقة الدورة الحالية من مهرجان كانّ السينمائي (13 – 24 أيار)، سواء مباشرةً أو مواربة، مثل «قضية 137» لدومينيك مول أو «مجرد حادث» لجعفر بناهي، ومن الزاوية نفسها يطلّ أيضًا «نسور الجمهورية» للمخرج السويدي المصري طارق صالح، كعمل يُفترض به أن يهزّ المنظومة السلطوية في مصر أو أن يعيد مساءلة العلاقة بين الفنّ والسلطة. غير أنّ الفيلم، رغم كلّ العناوين التي سبقت عرضه، سرعان ما انكشف عملًا مرتبكًا، غارقًا في التبسيط والسذاجة، يرفع راية المعارضة، لكنه لا يطلق رصاصة واحدة نحو الهدف. عمل أشبه بحلقة من مسلسل تلفزيوني قد يستمر إلى أجل غير مُسمَّى. 

يقوم السيناريو على فكرة ممثّل (فارس فارس) يتعرّض للضغوط والابتزاز للاضطلاع بدور الرئيس السيسي. إنه جورج فهمي، المعروف بأدواره الكوميدية السطحية. يُطلب منه فجأة أداء دور الرئيس في عمل سينمائي يتناول «بطولاته» في إنقاذ البلاد.

يطرح «نسور الجمهورية» نفسه بوصفه هجاءً سياسيًا، لكنه لا يلبث أن ينزلق إلى فوضى بنيوية تفقده أي قيمة. الشخصيات مجرّد ظلال، والمَشاهد لا يجمعها خيط سردي أو رؤية إخراجية بحيث يولد الانسجام المطلوب. الخلل البنيوي في الفيلم لا يمكن عزله عن واقع صناعته. فطارق صالح، الذي لا يستطيع التصوير في مصر، أنجز فيلمًا عن مصر من الخارج، كما في عمليه السابقين «حادثة النيل هيلتون» و«ولد من الجنة». معظم الممثّلين من دول عربية أخرى، أو من الشتات العربي، يتحدّثون بلهجات هجينة، ويؤدّون أدواراً يفترض أنها لمصريين يعايشون الواقع، لكنها تُقدَّم من زاوية ضبابية لا تمسّ ذلك الواقع. كلّ شيء مفبرك، مشغول بزيف.

نسور الجمهورية
نسور الجمهورية (2025)

المعضلة الكبرى في «نسور الجمهورية» أنه يريد أن يكون فيلماً عن كلّ شيء: الرقابة، اللوائح السوداء، احتكار السلطة والتحكّم بالبلاد، علاقة الفنّ بالحاكم، تعقيدات الأبوة، الانفصام المجتمعي… لكنه في النهاية يخسر كلّ المعارك الصغيرة والكبيرة، كون النصّ مهمومًا بالحدوتة وكلّ شيء يجب أن يكون في خدمتها. كلّ قضية يُلمِح إليها، ثم يتراجع عنها من دون الغوص في تفاصيلها. هناك ذكر عابر لعدد من المسائل، لكنها لا تتطوّر إلى محاور درامية حقيقية. كلّها تبقى في مستوى الإكسسوارات، كأنها وُضعت خصيصًا لتُلتقط في الإعلان الترويجي للفيلم، لا لتُبنى عليها أحداث فعلية.

ولعل أخطر ما فيه، أنه، وهو يحاول فضح كواليس المنظومة بأكثر الأساليب رعونةً وتكلّفًا وسماجةً، يمنحها، من دون قصد، مظهرًا مقبولًا. وهذا ما يحدث حين نعرض نظامًا سلطويًا بوسائل لا عمق فيها، فإننا بذلك نسحب من الواقع قسوته، ولا غرابة إذا انقلب السحر على الساحر. السيسي يظهر في الفيلم عبر ثلاث طبقات: الأرشيف، والمحاكاة التمثيلية، والتجسيد الحقيقي، لكنه في كلّ هذه التجلّيات، يبدو كما لو أنه أقرب إلى رمز مُفرَغ من المعنى. حتى المشهد الذي يُفترض أن يكون رهان الفيلم الأول –استعراض 6 أكتوبر– يتلاشى وسط الضباب وينتهي في غموض تام.

نسور الجمهورية (2025)
نسور الجمهورية (2025)

هذا التعثُّر لا يعود فقط إلى ظروف الإنتاج، بل إلى خيارات فنية وفكرية لدى طارق صالح، «المراهق» السينمائي الذي لا ينضج مع الوقت، ويبدو أنه مُصرّ على المضي في هذه الطريق. فهو يشتغل على مفاهيم عامة عن السلطة والدين والسياسة، لكنه يفعل ذلك من موقع «الخارج». موقع المُراقب الذي لا يعيش في قلب الظاهرة بل على أطرافها. في «نسور الجمهورية»، يزداد هذا البُعد وضوحًا: فيلم يتحدّث عن أحوال مصر السياسية، لكن لا يحمل همّها الحقيقي ولا يلمس جوهرها.

والمفارقة أنه، رغم إخفاقه الفنّي الواضح والصريح، قد يجد صدى في الغرب. لأنه يتماشى مع نظرة نمطية تُختزل فيها الشرق الأوسط في صور الكبت والسلطة والدين والرقابة. الكليشيهات التي يطرحها الفيلم، مثل «الرجل العربي المخصي»، أو «الفنان الذي يخضع للإملاءات»، تسهّل على المتلقّي الغربي أن يفهم «الآخر» ويحدّد موقعه انطلاقًا منها، لكنها لا تضيف أي فهم حقيقي للواقع المحلّي. الفيلم، بهذا المعنى، يبدو مصمَّماً لينال التصفيق في المهرجانات، لا ليُشعل نقاشًا صادقًا داخل المجتمعات العربية. هنا يبدأ دوره وهنا ينتهي.

نسور الجمهورية (2025)
نسور الجمهورية (2025)

المسألة برمتها تتجاوز النقد السينمائي إلى سؤال أعمق: هل تكفي النوايا الطيبة والمواضيع الشائكة لصنع عمل يُحسَب على المعارضة السياسية؟ «نسور الجمهورية» يُثبت أن التجرؤ على مواضيع حسّاسة يتحول إلى مسألة محرجة إن لم يكن مقروناً بالقدرة على تجسيدها دراميًا وجماليًا لتبدو قابلة للتصديق. ناهيك عن البُعد السجالي والمفترض أنه متأصل في الحمض النووي لكلّ نصّ سينمائي. فلا يكفي أن تشير إلى قضية؛ عليك أن تلمسها، أن تُشرِّحها، أن تُعرّيها. هذا ما يجعل من أيّ فيلم عملًا كبيرًا، وهذا ما لا يفعله طارق صالح، فتبقى أعماله محاولات رمزية. مع التأكيد على أن وجود أصوات سينمائية مُعارضة، حتى لو أتت من الخارج، هو أمر ضروري ومطلوب. لكن المعارضة لا تُقاس بنيات أصحابها، بل بعمق مقاربتهم، بقدرتهم على إعادة تركيب الواقع.

اقرأ أيضا: «قضية 137».. سينما تحاسب ولا تشيطن!

شارك هذا المنشور

أضف تعليق