فاصلة

مراجعات

“ناقة”.. ثمن المخاطرة السينمائية

Reading Time: 5 minutes

لا يحاول المخرج مشعل الجاسر أن يختبر ذكاء المشاهدين طويلًا في بداية فيلمه الأول “ناقة“، بل يختصر الأمر انطلاقًا من البوستر الرسمي للعمل، والذي يُظهر بطلة الحكاية سارة وقد رُسمت بجسدٍ بشري وساقيّ ناقة. المخرج يخبرنا من البداية أن سارة والناقة وجهان لعملة واحدة، أو تَجَسُدان لنفس الفكرة، فما هي تلك العُملة أو الفكرة؟

تقولها إحدى الصديقات لسارة خلال الفصل الأول: أنت مثل الناقة، حقودة لا تنسين حقك أو تغفرين لمن ظلمك، فهي الشابة العربية -السعودية في حالتنا – ابنة الثقافة الذكورية المحافظة، التي يضغط كل من وما حولها عليها فتُحرم من العيش بحرية، لكنها تختزن الإساءة داخلها ولا تنساها.

تبدو السطور السابقة استنتاجات سريعة وقاطعة، يجب أن توضع في نهاية المقال لا في بدايته. لكنني اخترت البدء بها تقديرًا لفيلم الجاسر وتأثرًا به. أحاول استنساخ ما فعله في “ناقة”: الانتهاء من الأفكار والتأويلات سريعًا ووضعها أمام من يفتش عنها ليشعر بالارتواء، كي يتفرغ الفيلم لأمور سينمائية أهم. تمامًا كما كان ألفريد هيتشكوك في أفلامه الأخيرة يضع ظهوره الشرفي في بداية الفيلم، بعدما اكتشف أن بعض الجمهور يذهب إلى السينما وهو يترقب لحظة ظهور المخرج داخل الفيلم فينصرف جزء من تركيزه حتى يجده. 

المخرج الشاب لا يختبر ذكاء المشاهدين، لكنه يختبر صبرهم، وقدرتهم على مشاهدة عمل سينمائي مغاير، حداثي، اختار دخول تحدٍ يُفضل أغلب صناع السينما عدم التورط فيه: ألا يتوقف الفيلم طويلًا عند سؤال “ماذا يقول الفيلم؟”، بل يتجاوزه للسؤال الأكثر إثارة “كيف يقول الفيلم؟”.

استقطاب منطقي

يُمكن هنا أن نتفهم منطق الكثير من التعليقات السلبية التي صاحبت طرح الفيلم على منصة “نتفليكس”، وحالة الاستقطاب العامة التي أحاطت بـ “ناقة” فور انتهاء عرضه في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، بين من وقع في غرام الفيلم ووجده تجربة سينمائية متفردة، ومن لم يجد فيه ما يستحق المتابعة، أو انزعج من اختيارات المخرج البصرية والسردية التي جعلت عمله يُعرض مسبوقًا بتحذير من أن بعض مشاهده قد تتسبب في متاعب لبعض المشاهدين.

لماذا إذن يُقدم مخرج على اختيارات تحد تلقائيًا من عدد محبي فيلمه؟ 

السبب الأول هو حريته الإبداعية، من حق كل فنان أن يختار أسلوبه الشخصي، ومن حق كل مشاهد أن يُعجب بذلك الأسلوب أو يرفضه. السبب الثاني والأهم هو أن اختيار مشعل الجاسر يرتكن بالأساس لقاعدة ذهبية كثيرًا ما نتناساها: أن شكل العمل الفني هو مضمونه، وأن الأفلام التي يمكننا فيها أن نفصل الأمرين، فيُعجبنا الموضوع لكن نتحفظ على الشكل أو العكس، هي في الأغلب أعمال منقوصة، تفتقر لهذا الارتباط العضوي بين وجهي العملة الذي يمنح “ناقة” خصوصيته.

لكن كي نصل لهذا الاستنتاج علينا أولًا أن نحلل أسلوب الفيلم. الكل تحدث عن الإخراج الصاخب، القفز بين اللقطات بإيقاع أسرع من المعتاد، لا يمنح اللقطة الواحدة الزمن الكافي لتُحدث عند المُشاهد حالة التشبّع التي تخلق الأُلفة، التصوير من زوايا ووجهات نظر غريبة، والانغماس طويلًا في كل حدث على حدة، فكل حدث يأخذ مساحة زمنية أطول مما يتوقعه الجمهور قياسًا على مشاهداته السابقة. لاحظ هنا المفارقة: المشهد يأخذ أطول من توقعاتنا، لكنه مُفتت إلى لقطات كل منها أقصر وأغرب من نفس التوقعات.

أضف إلى ذلك بناء الفيلم بشكل عام، والمعتمد على حالة انقباضية systolic، تأخذ البطلة في رحلة مشحونة بالمواجهات والمصاعب المتتالية طوال الليلة، بلا لحظات توقف أو هدوء بين كل حدث وما يليه. هذه اللحظات تلعب عادةً دور نقاط الارتكاز التي يتمكن المُشاهد فيها من التقاط أنفاسه، والتفكير فيما رآه ومحاولة تفسيره، فالدراما في صورتها القياسية أشبه بدقات القلب التي تنتقل باستمرار بين الانقباض والانبساط. مشعل الجاسر يحذف عمدًا عنصر الانبساط، ليضيف المزيد من كروت المخاطرة ومُسببات خسارة المزيد من المشاهدين.

 الشكل هو المضمون

هذه الأوصاف لشكل الفيلم تبدو لوهلة اختيارات مراهقة، تتعمد كسر القواعد الشائعة بحثًا عن الاختلاف. لكن المزيد من التفكير في موضوع الفيلم، وفي بطلته وحكايتها، قد يبيّن لماذا نقول إن شكل “ناقة” هو مضمونه.

سارة نفسها مراهقة، متمردة، تمتلك نزق عمرها المعتاد، مضافٌ إليه أسباب إضافية للتمرد: تربيتها المحافظة، والدها الصارم، أمها التي تُميّز بين أبناءها لحساب الذكر، والعالم المحيط الذي يبدو بيئةً عدائيةً تحكم على الفتاة بمجرد خروجها إلى الشارع، فما بالك إن كانت هذه الفتاة تُدخن؟ أو تشتم؟ أو تكذب على أهلها حول خروجها للتسوق مع صديقة بينما تنوي أن تقضي اليوم بصحبة حبيبها؟

تكمن هنا المفارقة التي لا ينتبه لها من يهاجمون الفيلم على منصات التواصل الاجتماعي. 

سارة في الحقيقة لا تفعل شيئًا استثنائيًا في الشطط، وكل المراهقين في كل مكان في العالم يشتمون ، أو يدخنون، أو يلتقون بالحبيب أو الحبيبة، دون أن يعني هذا أي شيء بخلاف كونهم يعيشون مرحلة عمرية متخبطة يكتشفون خلالها ذواتهم. المسافة بين كون سارة مجرد مراهقة تخوض ليلة عصيبة وبين كونها وفقًا للبعض “صورة مسيئة للفتاة السعودية”، هي بالضبط المشكلة التي تواجهها بطلتنا: عليها في كل لحظة أن تحافظ على تصورات الآخرين عنها لأسباب أكبر من رغبتها البسيطة في أن تعيش عمرها.

فتاة تتعرض لمطاردة سيارة، وحادث تصادم، وهجوم ناقة غاضبة، محاولة تحرش، ومحاولة احتجاز، ومجموعة أخرى من المواجهات المخيفة، لكننا نعلم أن ما يفوق خوفها من كل ذلك هو رعبها من التأخر ولو لدقائق على موعد والدها في نهاية اليوم!


أداء استثنائي

إذا فهمنا ذلك المدخل يمكننا أن ندرك كون الشعور الضاغط، المتوتر، المثير للأعصاب، بل وللدوار أحيانًا، جزءًا لا يتجزأ من الرحلة التي رسمها مشعل الجاسر لسارة. رحلة لن تُغيّر الكثير في علاقتها بالعالم، لكنها ستجعلها -وتجعلنا- أكثرًا وعيًا بأبعاد تلك العلاقة المعقدة والمليئة بالمخاطر.

المثير للتأمل هنا فردانية سارة، فهي وإنا كانت مراهقة عربية تُشكّل حياتها ظروف عامة تسري على الجميع، فإن الفيلم لا يحاول أبدًا أن يضرب بها مثلًا أو يجعلها رمزًا مطلقًا للفتاة السعودية بشكل عام، بل على العكس يركز “ناقة” منذ دقائقه الأولى على كونه يروي حكاية سارة تحديدًا، بتمردها الذي يلامس العنف، بمشاعرها الساخرة المستهينة بمن وما حولها، بلسانها اللاذع وتهورها الذي يدفعها لبدء المغامرة ويحركها سعيًا للنجاة. ولو افترضنا أن شخصية أخرى غيرها خاضت نفس الرحلة، ففي الأغلب كانت الاحداث لتتحرك في مسار مختلف تمامًا، بل ربما لم تكن لتقبل الذهاب مع حبيبها إلى الصحراء، ولم تكن المغامرة لتبدأ من الأساس.

لذا تبرز قيمة أداء أضواء بدر لدور سارة، حيث تجسد الممثلة الشابة الشخصية بقدر مدهش من الجمع بين مهمتين عسيرتين، فمن جهة تنغمس أضواء كليًا في تحدٍ بدنيّ مُفرط، تتعرض فيه لكافة أنواع المصاعب الجسدية التي قد تدفع ممثلة أخرى للإحجام عن لعب الدور برمته، ومن جهة أخرى تُمسك داخل ذلك التحدي بتفاصيل الشخصية وتكوينها، فعندما تهاجمها الناقة أو تركض هاربة لا نرى فتاة تحاول النجاة، وإنما نشاهد سارة تحديدًا تهرب وتركض، وتُصاب بالرعب على طريقتها، دون صراخ أو عويل يمكن توقعه من ممثلات كثيرات إذا ما طُلب منهن أداء المشاهد نفسها.

ناقة

يُقدم لنا “ناقة” ممثلة ولدت كبيرة، تنجح ببراعة في اختبار ليس باليسير، كما يُقدم لنا مخرجًا شابًا موهوبًا يمتلك صوته الخاص، والأهم هو امتلاكه الثقة الكافية للإقدام على اختيارات سردية وبصرية غير معتادة، ملائمة لموضوع فيلمه، حتى لو كان ثمن تلك الاختيارات هو سخط بعض المشاهدين، فلكل مغامرة ثمنها، سواء كانت مغامرة سارة في الصحراء، أو مشعل في “ناقة”.

اقرأ أيضا:  «ناقة» “مشعل الجاسر” عمل سينمائي مبهر

شارك هذا المنشور