ما لم تكن مصاباً بفقدان الذاكرة التقدمي مثل بطل فيلم «ميمنتو» (الذي يُعرض للمرة الأولى في المملكة نهار الأربعاء، في مناسبة مرور 25 عاماً على إصداره) وتنسى هذه المقالة بعد قراءتها، فمن الأفضل التوقف عن القراءة، لتجنب إفساد متعة اكتشاف بعض تفاصيل الحبكة الجريئة والجذرية والمفاجئة. مع ذلك، تذكر أيها القارئ هذه الرسالة جيداً: «لا بدّ من أنّ تشاهد هذا الفيلم!»، وربما مرّات عدة.
في فيلمه الروائي الطويل الثاني «ميمنتو» (Memento)، واصل المخرج كريستوفر نولان، الذي استهل مسيرته سنة 1998، بفيلم «فولووينغ» (Following)، المنتمي إلى تيار «النيونوار» البريطاني، استكشافه لمفهوم الذاكرة، والتسلسل الزمني للسرد القصصي.
في «ميمنتو»، يفتح نولان مسارين متوازيين إلى هذا الهجوم على الذاكرة، مستدرجاً المشاهد إلى تجربة ذهنية تشبه ما يعيشه بطله، حتى يكاد يُصاب هو الآخر، بتشوش الإدراك ذاته.
المسار الأول في سياق اللغة السينمائية (أي السرد المستمر، والمتدفق الذي لا يمكن لأحد إيقافه)، وأدب الجريمة البوليسية، الذي يُشوه هنا تنظيمه الهيكلي المتشعب والمقنن نحو كشف الألغاز من خلال الانقلاب الزمني. والمسار الثاني، هو إلزام المشاهد بالمعاناة (والعمل) بقدر تلك الشخصية، المحكوم عليها بالتحقيق في جريمة قتل، وهي تحمل عبء ذاكرة في حالة تبخر دائم.
يبدأ الفيلم بصورة بولارويد لرجل ميت، ونتعرف على ليونارد (غي بيرس)، محقق تأمين، اغتصبت زوجته وقُتلت على يد مجرمين. في تلك الحادثة يقتل ليونارد أحد المهاجمين، بينما يهرب الآخر. بسبب الضربات والصدمة النفسية التي تعرض لها، يُعاني ليونارد من فقدان ذاكرة تقدمي، فهو يتذكر حياته بدقة حتى لحظة الجريمة، لكنه فقد ذاكرته قصيرة المدى، ناسياً ما يحدث في غضون دقائق.

وللتغلب على حالته، يستخدم ملاحظات ويلتقط صور بولارويد، ويضع وشوماً على جسده تساعده على تذكر الأماكن والأحداث والأشخاص. والآن باستخدام نظام الذاكرة الخارجي هذا، ينطلق بحثاً عن المجرم الثاني عازماً على الانتقام.
في هذا السياق المثير، تبرز شخصيتان تيدي (جوي بانتوليانو) وناتالي (كاري آن موس). من جهة تيدي ضابط شرطة فاسد يحاول مساعدة ليونارد في تحقيقه. ومن جهة أخرى، تُشوه ناتالي، صديقة ليونارد المزعومة، المعلومات لمصلحتها الشخصية. وبالتوازي مع هذه القصة، تظهر قصة أخرى فرعية، مرتبطة بماضي ليونارد، وتحقيقه في قضية تأمين.

«ميمنتو» مثال على نصّ ذكي وتنفيذ مثالي لفكرته المحورية. لدينا هنا فرد في مهمة انتقام، يعاني من ضعف ذاكرة قصيرة المدة، فبعد دقائق ينسى ما قاله وفعله. أولاً، يجب أن يُنشئ السيناريو عدداً هائلاً من الآليات المعقولة حتى تتمكن الشخصية من التعامل مع العالم الحقيقي، خصوصاً عندما تكون المهمة لا تُحلّ بسرعة. الأدوات التي يُطورها السيناريو مبتكرة، تراوح من الملاحظات إلى الوشوم والصور الفوتوغرافية.
من هنا يبدأ النصّ بأن يصبح أكثر تعقيداً. فالآن يجب أن يطوّر حبكة بوليسية تتضمن توتراً ومفاجآت. هل هذا معقد للغاية؟ حسناً، دعونا نجعل الأمر أكثر صعوبةً: ستُسرد القصة من النهاية. الفيلم له خطان سرديان: أحدهما بالألوان، يتحرك للخلف، والآخر بالأبيض والأسود، يتحرك للأمام. يستمر هذا حتى يصل إلى وسط مُريح تُفهم فيه جميع النقاط الرئيسية للقصة. أصالة هذا النهج لها إيجابياتها وسلبياتها. المخاطرة المُتخذة لا تُنكر: إذا كان المشاهد يعرف كيف تنهي القصة، بحلول الوقت الذي نصل فيه إلى نهاية الفيلم (الذي سيكون بدايته)، يجب أن يكون هناك بعض الاكتشافات الصادمة، وإلا، فيسكون الأمر مجرد مسألة أسلوب مخرج لا يقدم شيئاً للفيلم.

لذلك، فيلم «ميمنتو» متطلب حقاً، حيث يجب على المشاهد تنسيق المشاهد، والانتباه إلى الأدلة وعدم ترك انتباهه يتشتت حتى لثانية واحدة. نظراً إلى أن كل مشهد يستمر حوالي ثلاث دقائق، يمكن للمرء بسهولة استيعاب معلومة. لكنّ التسلسل التالي الذي تصل مدته إلى ثلاث دقائق، يسبق في الواقع التسلسل الذي شاهدناه، ويبلغ ذروته حيث بدأ التسلسل السابق (مثلاً، نرى ليونارد يتفاعل مع شخصية مجهولة، وفي المرة التالية نرى الشخص نفسه يُقدم نفسه ويشرح ما يفعله). لكن مع تقدم السرد، تبدأ الأمور في التعقيد بسبب إضافة حبكة فرعية جديدة (وهذه تتبع ترتيباً زمنياً تقليدياً). ومع ذلك، فإن التشويق والغموض ليسا فقط العنصرين السرديين الوحيدين اللذين يُثيران تساؤلاتنا، بل يُركز الفيلم أيضاً على عنصرين أساسيين في السرد السينمائي: من ناحية، يُهيمن التركيز الداخلي للسرد على مُعظم أحداث القصة؛ أي أنّ مُعظم المعلومات تأتي من خلال عيون الشخصية الرئيسية. هذه الطريقة المُحددة في سرد القصة تُؤدي حتماً إلى أن يُختبر المُشاهد «تجربة تعاطف» مع الشخصية، حتى لو واجه مشاكل الإدراك نفسها التي واجهها ليونارد. من ناحية أخرى، يُمثل الزمن تحدياً أيضاً بفضل استخدام بنية زمنية مُقلوبة، وهي حقيقة تُعزز تعاطف المشاهد مع الشخصية ايضاً.
تُعد العلاقة بين الجسد والعقل جوهرية في الفيلم، فكيف يمكن للمرء أن يعيش من دون أن يتذكر؟ كما يلمّح الفيلم بفكرة ثانية وهي الذاكرة الانتقائية، والكذب، والحقيقة النسبية. ما يبرز في الفيلم هو الحوار حول بناء الواقع. كيف يخلق عقلنا ذكريات تتوافق مع تلك التي نمتلكها؟ ما هي الحقيقة، وكيف تعمل بناءً عليها؟

لو سُئلنا في نهاية الفيلم عن بطل «ميمنتو»، لكانت إجابتنا بلا شك ليونارد. لكن هناك فكرة (بطل) أبعد من هذه الحقيقة، وإن كانت خفية، لكنها تكشف عن نفسها باستمرار، وهي العقل البشري. هناك بعض العبارات في الفيلم تدفعنا للتأمل في هشاشة العقل البشري: «يمكن للذاكرة أن تُغير شكل غرفة ولون سيارة»، «الذكريات تُشوه، إنها تفسيرات، وليست تسجيلات، ولا تهم إذا كنت تملك الحقائق». يسمح لنا التناوب بين الملاحظات والوشوم والصور بفهم مدى دقة عمل ذاكرتنا. لذلك، يوجهنا الفيلم كمشاهدين في اتجاه بدائي بتذكرينا بأننا جميعاً نحتاج إلى ذكريات لنعرف من نحن.
إضافة إلى ذلك، هناك فكرة ثانية، ظهرت بعد عام من عرض الفيلم: «تذكر أنك ستموت»، هذه هي فحوى القصة القصيرة التي تحمل عنوان «Memento Mori» التي كتبها جوناثان نولان، شقيق كريستوفر، الذي تدور حوله أحداث قصة الفيلم، والني نشرت في العام التالي لعرض الفيلم.
سواء كانت النهاية بداية، أم البداية نهاية، حيث ليس من الواضح تماماً من تسبّب في ماذا، بلا شكّ، يتميز «ميمنتو»، بنصّ معقد وتجريبي، تكمن أهميته في طريقة سرد القصة، لا في القصة نفسها. لأنه، إن كان هناك أي شيء مثير للاهتمام في هذا الفيلم، فهو بنيته. ولهذا الغرض، لا يُقدم سوى جزء ضئيل من المعلومات، تاركاً كل شيء آخر للخيال، وذاكرة ليونارد وذاكرتنا.
اقرأ أيضا: بعد ربع قرن على إطلاقه.. «Memento» للمخرج كريستوفر نولان يُعرض لأول مرة في السعودية