فاصلة

مقالات

ميلان كونديرا… علاقة مرتبكة مع السينما

Reading Time: 4 minutes

تشكّل علاقة ميلان كونديرا (1929 – 2023) والسينما أحد الألغاز المرتبطة بذلك الروائي العظيم. فعلى الرغم من نجاحه الاستثنائي أدبيًا؛ نادرًا ما كانت كتاباته تتكيف مع الشاشة الكبيرة. مما يثير العجب، خاصة عند الانتباه إلى المفارقة المتمثلة في كونه ابن لعازف بيانو وعالم موسيقى، وأنه درس السينما في «مدرسة السينما والتلفزيون» (FAMU) التابعة للأكاديمية الفنون المسرحية في براغ، منضمًا بعد تخرجه إلى صفوف الأساتذة فيها وقام بتدريس فن كتابة السيناريو. 

لكن كونديرا كان يشجع تلاميذه على عدم كتابة السيناريو والابتعاد عن السينما، مؤكدًا أن الأدب هو «الطريق الوحيد الجدير» في عينيه. وعلى عكس ما يمكن أن نقرأه هنا وهناك، فإنه لم يتودد إلى المخرج ميلوش فورمان أو غيره من صانعي الموجة التشيكية الجديدة، حتى لو كان يعرفهم كي يخرجوا رواياته على الشاشة.

ميلان كوندير

هذه العلاقة غير الناجحة بين كونديرا والسينما، انعكست أيضًا على الأفلام التي اقتبست من كتاباته، وهي ليست كثيرة.

الاقتباس مهمة صعبة، فالصفات التي تصنع عملًا روائيًا رائعًا – الصوت والأسلوب الحساس– لا تترجم ببساطة إلى فيلم. يمكن لأفلام أن تنقل بصريًا السخرية الدرامية بطريقة لا تستطيع الكتب القيام بها، إذ ينقلها مبدأ «اعرض، لا تحكِ» إلى مستوى آخر تمامًا. ولكن نتيجة لكونها وسيلة بصرية؛ فإن السينما تعاني من قيود لا تواجهها الكتب. تدور أحداث الأفلام المقتبسة حول التحولات Twists، وليس الترجمة البصرية للأفكار التي يحتشد بها الكتاب. لذلك، كان من الصعب جدًا اقتباس كتابات كونديرا إلى الشاشة الكبيرة. 

ميلان كوندير

إن أشهر فيلم مقتبس عن كتب كونديرا هو «كائن لا تُحتمل خفته» (1988 – The Unbearable Lightness of Being)، للمخرج فيليب كوفمان. ولنا أن نعرف أن نقل كتاب كونديرا الذي يحمل العنوان نفسه إلى الشاشة لم يكن بالعملية السهلة، ولم يكن الفيلم «وفيًّا» لكلمات كونديرا، والتفاصيل والسخرية السوداء أو القتامة التي أعطت للكتاب معناه، والثقل والخفة المتمثلة بالشخصيات. قصة الحب التي تدور أحداثها في خضم المصاعب التي تواجهها تشيكوسلوفاكيا التي كانت تشهد خيانة ربيعها عام 1968، والخيانات والعلاقات الثلاثية، والموسيقى والثقافة، والتمرد والإثارة الجنسية، كل هذا الاحتشاد أدخل الكتاب في ذاكرة المكتبة العالمية. في المقابل؛ فالفيلم الذي أخرجه كوفمان ومثل فيه دانيال داي لويس وجولييت بينوش ولينا أولين، ليس فيلمًا خالدًا؛ لكنه نجح إلى حد ما في تصوير «الإيروس» (طاقة الحب والجنس) وهو يرسل الحيوية والحرية والتمرد في عالم تضطهده الأيديولوجيا.

لم يتمكن الفيلم من تصوير كل هذا الألم الذي تحمله الرواية، كما أن الفروق التاريخية والسياسية الدقيقة جدًا، وتأثير القمع الشيوعي على الشخصيات، الذي نتج عنه غزو حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، تلك اللحظة التي ميزت الكتاب، لم تكن موجودة في الفيلم بقوة.

ميلان كوندير

حصل الفيلم على ترشيحين لجائزة الأوسكار، وكان كونديرا مستشارًا أثناء تصوير الفيلم، حتى أنه كتب كلمة قصيرة ألقيت في أحد مشاهده. دوّن كونديرا في ملاحظة في طبعة لاحقة من الكتاب قائلًا، إن الفيلم لا علاقة له بروح الرواية أو شخصياتها. وذكر أنّه بعد هذه التجربة، لم يعد يسمح بتكييف أعماله في السينما. عند تصوير المشهد الحميم الأول، أظهر كوفمان قلقًا كبيرًا في مواجهة البرود الواضح بين البطلين، وبينما استمر في تجربة كل الحيل ليظهر الدفء والكيمياء، كان رد فعل كونديرا ضحكة طويلة لا يمكن السيطرة عليها.

ميلان كوندير

على الرغم من أن «كائن لا تُحتمل خفته»، أخذ الشهرة الأوسع، إلا أنه لم يكن الفيلم الأول الذي اقتبس من كتاب لكونديرا. في عام 1969، صدر فيلم «المزحة» (Zert) للمخرج التشيكي جاروميل جيريس، المقتبس عن الكتاب الأول لكونديرا بالعنوان نفسه، كما شارك كونديرا في كتابة السيناريو.

«التفاؤل أفيون الشعوب، الجو العام يفيض غباءً! يعيش تروتسكي»، جملة كتبها لودفيك (جوزيف سومر) على بطاقة بريدية وأرسلها لحبيبته، على سبيل المزاح. هذه النكتة ألقاها لودفيك للسخرية من حبيبته الشيوعية التي تتحدّث بشكل مبالغ فيه عن تجربتها في المدرسة الصيفية الجماعية. تقع الورقة في يد أعضاء الحزب الشباب، الذين يريدون تبيض وجوههم، فيتم طرد لودفيك من الحزب الشيوعي ونفيه، حيث خدم لمدة طويلة في المناجم. وبعد عودته، يقرّر الانتقام ممّن تسبّب في طرده.

ضعفت سيطرة ومصداقية الحزب الشيوعي الحاكم في تشيكوسلوفاكيا في أواخر الخمسينيات. وسارع الفنانون والكتّاب، منهم كونديرا والمخرج جاروميل جيريس إلى استغلال هذا الوضع. فظهرت الموجة التشيكية الجديدة، التي تم سحقها في الغالب جنبًا إلى جنب مع آمال اشتراكية متحررة واصلاحية عندما غزت الدبابات السوفييتية براغ. ينتمي جاروميل جيريس إلى جيل الفنانين المتألقين الذين وسعت رؤيتهم غير التقليدية الحدود الجمالية للسينما، وقد تخرج من «مدرسة السينما والتلفزيون» (FAMU)، مثل كونديرا.

هذا الفيلم التشيكي، مذهل من حيث المضمون والشكل، يتجاوز السياق والزمن. شكله السردي خاصة في الجزء الأول، منغمس في السياق الجيوسياسي وفي التشاؤم. أُنتج خلال فترة التحرير السياسي في ربيع براغ، ويحتوي على العديد من المشاهد التي تنتقد القيادة الشيوعية في البلاد. لذلك، منع الفيلم لمدة طويلة، كما منع كتاب كونديرا.

ميلان كوندير

فيلم آخر عرض عام 1966 من إخراج هاينيك بوكان، مقتبس عن كتاب كونديرا «غراميات مضحكة» (Laughable Loves)، بعنوان «لن يضحك أحد» (Nobody Will Laugh). الفيلم الأول لبوكان، يدور حول مؤرخ فني لا يستطيع إخبار الناس بالحقائق الصعبة أو الأشياء غير السارة، وبالتالي لا يريد أن يكتب نقدًا لعمل مؤلف مبتدئ. يجد نفسه في موقف لا مفر منه عندما تخرج كذبة صغيرة عن السيطرة بسرعة. هذه القصة الساخرة عن التجاوزات البسيطة لعالم أصبح كسولًا، توجّه نقدًا لا يرحم لمجتمع شيوعي قائم على النفاق والحسد. كوميديا تراجيدية ذكية ومسلية توظف جميع خصائص الموجة التشيكية الجديدة المهمة. الجانب الأكثر بهجة، هو طبقات الفكاهة السوداء، إذ تأتي أحيانًا سخيفة بشكل مضحك، وفي أحيان أخرى خفية بشكل مبهج، ولكنها دائمًا شديدة الإدراك بموضوعها.

اقرأ ايضا: أندريه تاركوفسكي… جامع الأحلام

شارك هذا المنشور