خلّف رحيل الناقد الفرنسي المخضرم ميشال سيمان في نوفمبر الماضي، عن عمر 85 عامًا وقعًا كبيرًا على قرائه ومحبيه من مختلف الأجيال، ممن نهلوا من شغفه اللامحدود بالسينما وثقافته الفنية الموسوعية.
سيمان ناقدٌ من طينة فرنسيين كبار كتبوا في السينما، على غرار أندريه بازان وسيرج دانيه، رحل عن عالمنا مخلِّفًا وراءه إرثًا نقديًا عظيمًا، ورؤية متفرّدة جعلت منه شاهدًا على ستة عقود كاملة من السينما، منذ بدأ كتابة المقالات النقدية في بداية العشرينيات من عمره تحت تأثير روجيه تايور وروبير بينَيون، المعروفين بمرجعيتهما السريالية.
نشر سيمان مقاله الأول في “بوزيتيف” مدافعًا عن “المحاكمة” (1963) لأورسون ويلز، قبل أن ينضم إلى هيئة تحريرها، ثم يشغل مهمة الإشراف على تحريرها. شكلت “بوزيتيف”، حجر الأساس ليس فقط في منجزه النقدي، بل وفي صقل رؤيته للسينما كذلك، من خلال المنافسة الشهيرة مع الغريم “دفاتر السينما” حول مفاهيم محورية كالاختيار بين سينمائيى الواقع وسينمائيى الخيال، وهم الأقرب إلى رفاق سيمان ـ
يمكننا أن نرى الخط الفاصل بين الفكرين من خلال الفارق المنهجي بين ما تبنته كل من المطبوعتين، من مشروعية معيار “سياسة المؤلّف” الذي كان يعتمده فرانسوا تروفو (رأس حربة “الدفاتر”) لكي يقول أن “أسوأ أفلام جاك بيكير يظل في نظره أفضل من أروع أفلام كلود أوتان ـ لارا”، على الجانب المقابل؛ دافع سيمان عن “نظرية المؤلّف” التي تعترف بدور اختيارات المخرج المحوري في صوغ الأفلام، لكن من دون أن تحرم نفسها من الحق في ألّا تحبّ عملًا لمخرج سبق أن أشادت به سابقًا.
تلك الجدلية المثمرة أفادت الحقل النقدي الفرنسي الذي أثرته الرؤيتان المختلفتان للقطبين النقديين، ليسهما معًا في نظرة متكاملة على إنتاجات السينما الفرنسية والعالمية. فذلك التضاد بينهما الذي وإن تمخّض أحيانًا عن معارك رأي ضارية وأعمدة انتقاد نارية بين أقلام المعسكرين؛ أخفى وراءه احترامًا دفينًا وتقديرًا بين زملاء يخدمون هدفًا واحدًا ساميًا، هو النهوض بالسينما وثقافتها.
ولعل الدليل على ذلك هو المكانة التي احتفظ بها سيمان بين “مجلس العشرة” الذي يمنح تنقيطًا (من صفر إلى أربع نجمات) للأفلام التي تخرج إلى القاعات في كل شهر، يُنشر على الصفحات الأخيرة من غريمته اللدود “دفاتر السينما”.
ألّف سيمان كتبًا نقدية مهمة، ينتمي أغلبها إلى جنس الحوار الذي اعتبر من أهمّ معلّميه، تحديدًا مؤلفه المرجعي حول ستانلي كوبريك الصادر في 1980 حيث استثمر فوتوغرامات مستخرجة من الأفلام لكي يحلّل العناصر التي صنعت تفرّد أسلوب المخرج العبقري، ويستدلّ على مميزاته البصرية، وأرفقها بحوارات مهمة ترجمت علاقة الثقة التي انبنت بينه وبين كوبريك المقلّ من الحوارات الصحافية لطبيعته الحذرة ضد “استسهال” بعض الصحافيين.فسيمان الناقد كان حريصًا على أن يكون الحوار وسيلة لسبر أغوار الأفلام انطلاقًا من معرفة عميقة مشتركة بالسينما والفنّ والثقافة العامة، وهو ما كان يدركه كوبريك.
مخرجون آخرون دافع عنهم سيمان منذ البداية قبل أن يخصص لهم مؤلفات خاصة حول سينماهم، أبرزهم إليا كازان (“كازان بعيون كازان”، 1973)، فرانشيسكو روزي (“الملف روزي”، 1976)، جوزيف لوزي (“كتاب لوزي”، 1979)، جون بورمان (“صاحب رؤية لعصره”، 1985)… وآخرهم جين كامبيون التي أفرد لها مؤلفًا بعنوان “كامبيون بعيون كامبيون” صدر في 2014 عن منشورات “دفاتر السينما”.
ولعل أفضل مدخل للاستئناس بمنجزه، هو كتابه الذي حمل عنوان “حياةٌ في السينما” (صدر عن “غاليمار” في 2019) الذي جمع فيه جمع مقالاته المنتمية لأجناس مختلفة مثل الحوار والتكريم والتحليل والريبورتاج، ومثال على ذلك الصنف الأخير، مقالته الطويلة المذهلة بغناها وتنوعها حول السينما السوفياتية، التي كتبها في 1977 واستلزمت منه قطع آلاف الكيلومترات لمدة ثلاثة أسابيع بتمويل من “ليكسبريس”، وهي رحلة لو سمع عنها من لا يدرك ظروف ذلك العصر لعدها دربًا من الخيال العلمي.
لم يفاضل سيمان بين الأجناس الكتابية التي تنقل بينها وتشير كتاباته إلى أنه اعتبرها تتآلف جميعها لتشكل النقد في معناه الواسع. ولعل من أكثر مواد كتابه “حياة في السينما” إثارة للاهتمام؛ مقالة معروفة فصّل فيها عندما كتبها في العام 1997، نظرية أطلق عليها “مثلث برمودا النقدي” المكون من “دفاتر السينما” و”ليبيراسيون” و”لوموند” (أضاف إليهم فيما بعد “ليزانرو كيبتيبل”).
يعتقد سيمان بموجب تلك النظرية أن انتقال المتعاونين بين هذه المنابر (قادمين من الدفاتر تحديدًا) أسفر عن توحيد للرؤى النقدية بينها فأضحت، في نظره، تدافع عن شكل واحد ومنمّط من السينما.
وكان سيمان قد شحذ أسلحة نقده اللاذع خلال النقاشات الصاخبة والساخرة التي تجمع المشاركين في البرنامج الإذاعي “القناع والرّيشة” على “فرانس أنتير”، الذي ظل يحل ضيفًا عليه بصفة شبه منتظمة منذ 1970 إلى غاية سبتمبر 2023. كما أنتج وقدّم على امتداد 26 عامًا برنامجًا إذاعيًا حول السينما على أثير “فرانس كيلتير” بعنوان “عرض خاص”، خصصه لإنجاز حوارات مع مئات السينمائيين حول جديدهم المعروض بالقاعات الفرنسية.
وعلى سبيل إسداء تكريم لروح هذا الناقد الكبير، نورد فيما يلي ملخّصًا لأحد أجمل مقالاته وأكثرها تأثيرًا بعنوان “الفضائل السبع للنقد السينمائي”، الذي نشر في كتاب الحوارات الذي أنجزه معه في 2014 الناقد “ن. ت. بينّ” بعنوان “السينما مقتسمةً”، واستعرض سيمان في هذا المقال رؤيته لأهم الفضائل التي ينبغي أن يتحلّى بها النّاقد الجيد.
1. المعلومة
ينبغي أن يجمع الناقد السينمائي أكبر قدر ممكن من التفاصيل عن الفيلم والمخرج الذي سيكتب عنه، حتى يتمكن من تقديم معلومات وافية للقارئ. كيف يتموقع العمل في منجز المخرج؟ من هو كاتب السيناريو؟ ما دور مدير التصوير ومصمم الديكور ومؤلف الموسيقى؟ وبالطبع اختيار الممثلين الرئيسيين. هل سبق أن عملوا معه، وماذا يمثلون في مخيلته؟
2. التّحليل
الميزة الثانية للناقد هي قدرته على التحليل. ينبغي ألا يكتفي بقول ” أحببت” أو “لم أحب”، “هذا رائع” أو “لم أقدر على المتابعة…”، كلّ هذه انطباعات لا قيمة لها.
يكتب سيمان: “التحليل، في رأيي، لا ينبغي أن يتم وفق شبكة موحّدة، تحصر العمل في قالب مقيّد؛ ينبغي ألّا نتعامل مع كل الأفلام بنفس الطريقة. لا نتحدث عن “لغز سقوط طفلة” لجيري شاتسبيرغ 1970، كما نتحدث عن سلفاتوري جوليانو لفرانشيسكو روزي 1962.
بالنسبة للأول، يمثّل التحليل النفسي بالتأكيد أداة مفيدة للغاية، أما للثاني، فستحظى معرفة صقلية والحياة السياسية الإيطالية وعقلية البحر الأبيض المتوسط بأهمية بالغة. يمكننا تكييف الأدوات مع الفيلم الذي نشاهده. يتعيّن أن يستخدم تحليل الفيلم أدوات مفاهيمية، لكن لا توجد نظرية وحيدة تفي بالغرض. لهذا السبب، أعتقد أنه كلما امتلك الناقد ثقافة عامة واسعة، تمكن من تقديم تحليل قوي وكفؤ. لأن السينما – كما قلنا ونعيد – هي توليفة لجميع الفنون. إنها Gesamt kunst werk كما عرّف فاغنر الأوبرا قبل عشرين عامًا من ميلاد السينما”.
3. الأسلوب
النقطة الثالثة هي أن النقد نشاط أدبي. شكل من أشكال الكتابة، وجنس أدبي في ذاته. هناك نوع من الجمال في المقالة السينمائية، كما في المقالة الأدبية أو التجريب التشكيلي، حتى لو كانت جنسًا ثانويًا. على سبيل المثال – يقول سيمان- أعتقد أن كتابات بودلير حول الفنّ رائعة، ولكن “أزهار الشر” أكثر روعة. عندما كنت أقرأ لبازان أو تروفو أو رومير أو بينَيون أو تايلور، كانوا ينفذون إلى داخلي من خلال الأسلوب، ويجعلوني أفهم الطبيعة الحقيقية للفيلم. السينمائيون العظماء هم مبدعون يعلمون كيف يصورون، ويعرفون كنه الصور والأصوات، وإدارة الممثلين، ويُشركونك من خلال أسلوبهم في ذكاء الفيلم. وكذلك نحاول تمرير الفكر من خلال التعبير الأدبي لمقالاتنا، ومن خلال العاطفة الجمالية لأسلوبنا.
4. الشّغف
الميزة الرابعة هي العاطفة، والحماس، أو ضربٌ من الحمى يجب أن نلمسه عند الناقد. أن يكون مدفوعًا بالرغبة في الإقناع والمشاركة والتّمرير. يكتب سيمان: “ربما أتحدث عن نفسي في هذه الحالة المحددة. في عام 1963، عندما رأيت كل الأفلام الرائعة التي تصدر في السينما الإيطالية أو الفرنسية، عندما خرجت من فيلم لبونويل، كنت أقول لنفسي أن عليّ المغامرة بالكتابة حوله بأي ثمن. لقد كنت جزءًا من حقبة استثنائية. كنت أتوق للتعبير عمّا شعرت به”.
5. الفضول
“في رأيي، لا ينبغي للناقد أن يظلّ في الحيّز الضيّق الذي يعرفه جيدًا. يتوجّب عليه ألا يخشى من استكشاف مناطق أخرى، محافظًا على فضوله باستمرار. دون الرغبة في التقليل من شأن تروفو الذي كان يمتلك المعلومة والتحليل والأسلوب والشّغف. لا أعتقد أنه كان يتوفّر على فضول حقيقي. لقد اختار من يكرههم ويحبّهم في السينما الفرنسية. اختار سينما هوليوود بشكل عام. ثمّ اصطفى مخرجًا واحدًا تقريبًا من كل بلد كان يحظى بمدحه: روسيليني في إيطاليا، مونك في بولندا، ودراير في الدول الإسكندنافية، ولم يذهب إلى أبعد من ذلك إلا نادرًا. هكذا، غادر عرض فيلم “باثر بانشالي“، التحفة الهندية لساتياجيت راي، قائلا أنه غير جدير بالاهتمام”.
6. تراتبية الحكم
الميزة السادسة هي حسّ التراتبية. أن تقول: “هذا أحد أكبر ثلاثة أو أربعة أفلام لهذا العام” وتكون قادرًا على شرح السبب. أعتقد أنّي أستطيع شرح الأسباب التي تجعل “باري ليندون”، سلفاتوري جوليانو”، ” بروفيدونس”، “أبوكاليبس ناو”، “ستالكر” أو “كازانوفا فيلّيني” أعمالًا متفوقةً على معظم الأفلام التي ظهرت في نفس العام.
“أثار هذا النهج استياء البعض بشدة لأن التراتبية بالنسبة لهم مرادفٌ لعدم المساواة: “هذا غير ديمقراطي! بأي حق تقول إن سيمفونية موزارت أعلى قيمة من أناس يقرعون على علبة من الصفيح؟ إنها مساواة زائفة حقًا”.
في هذا، أتبنّى شخصيًا مذهب أرسطو. أعتقد أنه منذ أكثر من عشرين قرنًا، لم يتوقف علماء الجمال ونقاد الفن والأشخاص الذين ينقدون الفنّانين عن إقامة تراتبية معيّنة. سيقرّر الزمن، على أية حال، أهمية الأعمال وأهمية الحكم الصادر عليها. لا نتوقف عن إصدار الأحكام، وتوزيع نقاط الامتحان في كل شهر على “بوزيتيف”. لماذا نخصص الغلاف لفيلم معين؟ لماذا يتم إجراء ثلاث أو أربع مقابلات في كل عدد وليس عشرين؟ الحياة هي اختيارات دائمة. نحن لا نكفّ عن الاختيار. المشكلة إذن هي معرفة ما إذا كان خيارنا ناجعًا أم لا. هذه مجازفة ينبغي أخذها من قبل المجلة، ومن قبل الناقد.
7. “لمحة العين”
الصفة السابعة هي ما أسميه “لمحة العين”. قدرةٌ خاصة على الرؤية. يوضح ماكس جاكوب فريدلندر هذه الفكرة في كتابه “عن الفن والمتذوّق” قائلًا: “لا ينبغي الاستهانة بالمعرفة، فمن يعرف أكثر يرى أكثر. ولكن لا يجب المبالغة في تقديرها أيضًا. فلا فائدة منها لمن لا يعرف كيف ينظر”. ذلك أنّ الناقد الفني الذي يمتلك “لمحة العين” بوسعه التعرف على هوية الفنان التشكيلي وقيمته من خلال تفصيل بسيط في اللوحة، ما يجعله يقول: “هذه ليست لوحة لبرونزينو بل لروسّو فيورنتينو”. لكن الأهم هو اكتشاف الموهبة، دون أن تتوفّر على أي ورقة فنية، ودون أدنى معلومة عما أنجزه المخرج من قبل. هذا ما جعل الاشتغال مثيرًا في “أسبوع النقاد” عندما كنت عضوًا في لجنة الاختيار.
اقرأ أيضا: جوائز برليناله الـ 74.. دب برلين بين السينما والأشياء الأخرى