في فيلمه الطويل الرابع، «موندوف Moondove»، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، يواصل المخرج اللبناني الشاب كريم قاسم استكشاف أسلوب سينمائي شديد التميز يمزج فيه بين الروائي والوثائقي بحس شاعري، ينفذ به إلى كافة عناصر العمل وعلى رأسها الصورة التي يتولى مهمتها أيضًا في هذا الفيلم كونه مديرًا للتصوير.
تدور أحداث الفيلم حول حياة وتفاعلات مجموعة من سكان قرية غريفة بمحافظة جبل لبنان. تعاني القرية من نقص شديد في المياه، ما يمس حياة كل سكانها وليس فقط أبطال الفيلم. يجسد الفيلم عبر شخصياته من فلاحين، وعمال، وموظفين وأسر من كافة الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، تلك الحياة الجافة، ويربطهم سرديًا عبر شخصية رئيسية هي شخصية غسان عامل شركة المياه.
في أول ظهور لغسان عامل المياه، نراه يقود سيارته غارقًا في أفكاره محدثًا نفسه: «الكهربا ما في.. الميه (المياه) خفيفة.. وأنا…» وقبل أن نسمع إجابته يقطع رنين هاتفه حبل أفكاره وحديثه الداخلي. يجيب الهاتف سائلا عن هوية المتصل، ومن حديث قصير نفهم أن المتصل يسأل عن المياه. على مدار الفيلم يستقبل عامل المياه المزيد والمزيد من المكالمات الهاتفية من سكان البلدة التي شحت بها المياه. تقتحمه هذه المكالمات حتى أنه لا يستطيع أن يجيب على سؤال بسيط: «من أنا؟». مثل هذه المشاهد الروائية التي تم تصميمها بدقة بالغة في كل لقطة وكل قَطْعَة مونتاج، تعبر عن واقع يوثقه الفيلم في شقه التسجيلي. يتجاوز كريم قاسم سؤال السياسة والاقتصاد ويتجاوز المجتمع والأحوال المعيشية الصعبة، ليبدي اهتمامًا خالصًا بالإنسان، ويبدأ من أبسط الأسئلة وأعقدها في الوقت ذاته. سؤال تقاطعه الحياة الصعبة كما قاطع رنين الهاتف أفكار غسان.
في لحظاته القليلة التي يسرقها لنفسه بين جولات الجري خلف المياه، يسترجع غسان حياته السابقة أو يستذكر دوره في مسرحية عنوانها «فراق» ويردد حوار شخصيته، أو يختلس لحظات خاطفة يأوي فيها إلى حبيبة سابقة. يتلفت غسان حوله مرارا ليتأكد من خلو المكان قبل أن يصعد إلي شقة حبيبته التي تجمعه بها علاقة عاطفية عذرية. لا يسعى خلف شيء غير الونس والحديث الصادق إلى أليفته. تلومه على عدم التصريح بحبه والزواج من غيرها. فيخبرها ببساطة أنه النصيب ولا شيء غير النصيب. منزل الحبيبة الذي يزوره خلسة هو ملاذه الوحيد في هذا العالم الجاف ومضطجعه الذي يأوي إليه ليتخلص من إرهاق الجري خلف المياه الشحيحة.
يحضر الواقع الاقتصادي البائس الذي تخيم غيومه على جميع طبقات المجتمع اللبناني ويعلن عن نفسه بقوة في أفلام كريم قاسم. هنا في «موندوف» تبدو الأزمة الاقتصادية شبحًا يطارد أهل هذه القرية الصغيرة في بطن الجبل. أبو عبده الذي أقعده المرض عن العمل ويفتك الملل بجوانب حياته، يخرج إلى ورشة جاره محاولا الاستئناس بأجواء العمل.
تبدو الورشة هادئة، ليس هناك زبائن تذكر رغم انشغال صاحبها ببعض الأعمال. وفي مشهد آخر يزور جار آخر يزرع بستانه، يسأله عن الأحوال فيشتكي نقص المياه وما ألم بنباتاته بسببها. أما الابن، عبده، فيبحث عن فرصة للسفر خارج البلد في محاولة للهرب من هذا شبح الفقر والشُح المقيم. يلجأ الابن لبيع عشة من الحمام لتدبير بعض مصاريف البيت في غيابه. تغادر هذه الحمامات منزلها الذي أسس بنيانه على الحب والشغف، كما يغادر صاحبها وطنه بحثًا عن سبيل لحياة أفضل. وهناك أيضًا الفلاح الذي يصادفه عامل المياه باحثًا عن قطيعه المفقود، يسأله عامل المياه: «بتشتغل شي غير العنزات؟» فيجيبه بأنه فلاح يزرع القمح. أما عاملة النسيج فتتحدث بأسى عن ورشتها التي ورثتها عن أبيها والذي ورثها بدوره عن أبيه. «بفتكر إنه من بعد مني أنا بتنتهي هاي الحرفة.. للأسف.» من هذه الشخصيات الحقيقية يغزل كريم قاسم الشق التسجيلي في فيلمه ويطرزه بمشاهد روائية كتبت بحساسية شديدة لتكتمل بها صورة فيلمه السينمائية.
يعج الفيلم بالمجازات البصرية وإن لم يحاول أن يفرض أي نوع من الرمز، فالتأويل متروك للمشاهد، بالطبع، ولكنك لا تستطيع أن تتجاهل شكل سيارة عامل المياه التي يعلوها الصدأ من كل جانب، ولا يفتح باب السائق لعطل به، فيضطر صاحبها للنزول والركوب من الباب المقابل. ولكنها على أي حال قادرة أن تكفيه عناء الانتقال سيرًا بين جنبات القرية، قبل أن يصيبها ما أصاب صاحبها من الإرهاق وتتوقف تمامًا عن الحركة.
لا تستطيع كذلك أن تتجاهل دلالة الحضور شبه الدائم للأقفاص الحديدة أو السياج المفروض على واجهة الكاميرا في تتبعها للشخصيات في عديد من اللقطات، لا تعرف إن كانت الشخصيات هي الحبيسة أم الكاميرا/المشاهد أم الاثنين معًا. تتكرر هذه الصبغة الشعرية التي تعلو الصورة في أفلام كريم قاسم، إذ توثق أفلامه الواقع بعين جمالية، كما في فيلمه الثاني «أخطبوط» الذي يوثق لحادثة مرفأ بيروت في فيلم يخلو تمامًا من أي حوار، وحدها الصورة قادرة على التعبير واستنطاق الشعر حتى من فاجعة كتلك التي ألمت ببيروت قبل بضعة أعوام. فاز «أخطبوط» بجائزة أفضل فيلم في مسابقة Envision في مهرجان أمستردام الدولي للفيلم الوثائقي «إدفا»، وهو واحد من أكبر وأهم مهرجانات الأفلام الوثائقية في العالم.
على المستوى البصري تهيمن المشاهد النهارية على الفيلم بأكمله، فلا نكاد نرى أي مشهد ليلى باستثناء لقطة وحيدة للقمر ليلا. الإضاءة الطبيعية تضفى حالة خاصة على الفيلم سيما مع التنوع الكبير في توظيف ضوء الشمس بدرجاته المتفاوتة في أوقات الشروق والظهيرة والرواح والأصيل والغروب. أما على المستوى السردي فيتحرك الفيلم بأريحية شديدة بين شخصياته المختلفة بمنتهى السلاسة والانسيابية. فمنذ بداية الفيلم تسلمنا الشخصيات واحدة إلى الأخرى، أو ننتقل من طيور عبده السارحة في سماء القرية إلى طيور نبيه على لوحته الزيتية. أحيانا يكون الانتقال عبر الصوت كما في أحد المشاهد التي تعزف فيها سونا على البيانو، تنتقل الصورة إلى غسان يجوب شوارع القرية بينما صوت البيانو لا يزال يرافقنا ويرافقه.
اقرأ أيضا: «مذكرات حلزون»… لا تدع الاسم يخدعك