فاصلة

مراجعات

مو هاراوي… الصومال بعيداً عن الصور النمطية

Reading Time: 3 minutes

بشاعرية جافة، تتماشى مع المناظر الطبيعية الصحراوية التي تهتز دوماً بفعل الرياح والرمال في الصومال، نجد أنفسنا وسط عائلة مكونة من أب وابن وعمة، عليهم أن يتعاملوا ليس فقط مع ندرة الموارد والفرص والفقر، في بلد موبوء بالحروب منذ عقود، بل أيضاً مع التهديد الكامن المتمثل في الطائرات من دون طيار التي تحلق فوق الساحل الصومالي، وتطلق أحياناً صواريخها على أهداف محددة مفترضة. أمر يؤدي حتماً إلى ما يسمى «الأضرار الجانبية». 

يبدأ الفيلم الطويل الأول للمخرج الصومالي مو هاراوي، «القرية المجاورة للجنّة» (2024، «The Village Next to Paradise»، مسابقة «نظرة ما» في مهرجان كان)، بتقرير إخباري تلفزيوني عن هجوم بطائرة أميركية على مكان ما في الصومال. نعلم بعد ذلك أن إرهابياً صومالياً مرتبطاً بتنظيم «القاعدة» قد اغتيل. لاحقاً، نرى مراسم دفن القتلى، عندها يظهر لنا، ممارغراد (أحمد علي فرح)، حفّار قبور متمرس، ومجتهد للغاية يدفن الموتى، غالباً ما يكون هؤلاء الأشخاص قُتلوا بضربات طائرات دون طيار. 

ممارغراد الذي يمارس ــ بجانب حفر القبورــــ  بعض الأعمال غير القانونية الخطيرة، يعيش مع ابنه سيغال (أحمد محمد ساليبان)، واخته المطلقة حديثاً أراويلو (عناب أحمد إبراهيم)، الخياطة التي تحلم بفتح متجر خياطة خاص بها، في منزل متواضع، صغير جداً. يحلم ممارغراد بأن ينهي ابنه دراسته ولا يعاني من الإذلال الذي يضطر إلى تحمله من أجل إطعام أسرته الفقيرة. يحلم سيجال الصغير قليلاً، ويكتشف العالم، ومن بين أشياء أخرى، يتعلم في المدرسة كيفية الاختباء وحماية نفسه من الصواريخ المحلّقة في السماء.

مو هاراوي
فيلم «القرية المجاورة للجنّة»، (2024)

جميع الشخصيات لديها مشاكلها الخاصة، لكن كفاحها من أجل البقاء هو الأهم، والحب المتبادل والاحترام والارتباط قوي حتى في اللحظات التي تتجادل فيما بينها. بسبب هذا المناخ الذي يعيشون فيه، يبدون عائلة غير تقليدية تماماً لأنهم لا يقبلون الواقع، ويحلمون بأحلام كبيرة ويكافحون من أجل البقاء يوماً بعد يوم.

 تتوالى المشاهد واحداً تلو الآخر، تحدث الحياة ببساطة، وتُتخذ القرارات القوية في اللحظات الحرجة من دون الكثير من الدراما، ويظل شبح الموت حاضراً بشكل مخيف يلوح في الأفق فوق رؤوسهم. وهكذا، يتكشف الفيلم أمامنا، يسمح لنا هاراوي بالاقتراب من الشخصيات ببطء، في فيلم ندخله كأننا نعبر عتبة منزل لا نعرفه، يسكنه أشخاص ودودون، حيث نريد البقاء. تتعايش الشخصيات في بلد مبتور أصلاً، غارق في اضطرابات اجتماعية وسياسية وبيئية، يتميز بماضي استعماري. وهكذا، يجد الفيلم نفسه، بشكله الراقي، ويتغذى من خيال مهرج محبّ للسينما. 

مو هاراوي
فيلم «القرية المجاورة للجنّة»، (2024)

يفضل هاراوي التركيز على الحب الذي يكنه أبطاله لبعضهم البعض، وعلى الملاحظة الدقيقة لحياتهم اليومية، في فيلم لا يحتاج إلى حيلة بصرية أو سردية ضخمة لترك بصمة. بل إن هاراوي يجذبنا من خلال سلسلة من التفاعلات الصادقة والعميقة. والشخصيات ليست مجرد مركبات سردية، بل أفراد لديهم أحلام وتطلعات يواجهون عقبات خارجية وداخلية. إن تصوير نضال ممارغراد إنساني للغاية، ولحظات الأمل، على الرغم من قلة عددها، هي التي تحافظ على أساس عاطفي في الفيلم. 

إن إحدى نقاط قوة الفيلم تتمثل في قدرته على إظهار كيف تعمل العوامل الاجتماعية والثقافية كحواجز أمام تقدم هذه الشخصيات، بدون الوقوع في نبرة ميلودرامية أو قسرية. يجمع هاراوي بعناية شظايا ثقافتهم لخلق انعكاس هادئ وحزين على مجتمع يكافح لكسر حلقة الفقر، لكنه يواجه تحديات ساحقة. ومن خلال شخصياته ونضالاتها، يخلق هاراوي فيلماً يتجاوز الصور النمطية ويصبح استكشافاً حقيقياً لمحن ومصاعب مجتمع مهمش. 

إن رفض المخرج الصريح لشحذ العواطف والبؤس في ما يتعلق بالصومال يوضح رغبته في إظهار أن إفريقيا قادرة على تحرير نفسها بدون المرور بوصاية الغرب. «القرية المجاورة للجنّة» فيلم حر يراقب الديناميكيات الاجتماعية والثقافية من منظور نسوي تقريباً منفتح على الآخرين، حيث تبدو النساء، من خلال هذه العمة الشجاعة والعازمة، حصناً أقوى ضد التدخل والهيمنة.

مو هاراوي
فيلم «القرية المجاورة للجنّة»، (2024)

يتكون الفيلم من نوع خاص من البطء، لا يُظهر الكسل أو يؤثر على السرد، بل على العكس، يساعد الشريط على التوقف في لحظات الصمت، حيث يمكن للثقل العاطفي أن يتكشف بشكل غير متوقع. إن النهج البسيط الذي يتبعه هاراوي، باستخدام ممثلين غير محترفين، وحوارات متناثرة، وأصوات محيطة، وبصورة زاهية الألوان متناقضة مع الجو الصحراوي العام (الفيلم من تصوير المصور السينمائي المصري مصطفى الكاشف)، والموسيقى والاغاني التراثية الصومالية، يخلق تجربة تأملية غامرة، تركز أكثر على الحياة العاطفية الداخلية لشخصياته بدلاً من الدراما الصريحة.

اقرأ أيضا: جورج كلوني وبراد بيت «ذئبان» في ليل نيويورك

شارك هذا المنشور