هناك ما هو مهيب في مهرجان لوميير السينمائي في ليون (عُقِدت دورته الخامسة عشرة من 12 إلى 20 أكتوبر) نلمسه ونعيشه، إلا أن شرحه يصعب لمن لم يشارك فيه. إنه شيء يجعلك تطمئن إلى حقيقة أن كلّ الأفلام المعروضة، أو على الأقل جزءاً كبيراً منها، اجتازت امتحان الزمن فخلّدت.
لكن هذا المهرجان المتخصص بالكلاسيكيات المرمّمة التي تلم شمل أجيال عدة من المشاهدين، لا يكتفي فقط بالأعمال المكرسة التي يسبقها صيتها، بل ينتشل أيضاً من مجاهل التاريخ تلك التي وقعت في النسيان، ينفض عنها الغبار في انتظار أن تُستكشَف من جديد، لعلها تبقى في الذاكرة لأطول فترة ممكنة ويُعاد إليها بعض الاعتبار الذي لم تنله في حينها.
أشارك في هذا الحدث السينمائي العظيم (وصفة «عظيم» هنا في محلها وليست مجاملة) منذ عام 2017. مبادرة فردية حملتني إلى ليون، قبل سبع سنوات. يومذاك، لم يكن المهرجان معروفاً لكُثر من الناس في العالم، فما بالك بالعالم العربي! صعبت مقارنته بمهرجانات كبيرة ككانّ والبندقية، أولاً لأنه لا يختار أعمالاً حديثة (إلا فيما ندر) من تلك التي ينتظرها العالم أجمع في عروض عالمية أولى، بل يستعيد ما صنع سينما الماضي المستمر في إدهاشنا رغم حاجز الزمن.
ثانياً، عند أول تغطية لي لـ«لوميير»، لم يكن تجاوز عمره، بعد، الدورات الثماني، أي أنه كان لا يزال فتياً مقارنةً بغيرها من التظاهرات السينمائية التي فرضت نفسها دورة بعد دورة عبر السنوات المديدة. وأهمها في المجال نفسه: مهرجان «إيل تشينما ريتروفاتو» الذي تأسس العام 1986 وبات قبلة الأفلام الكلاسيكية، تنظمه سينماتيك بولونيا في عقر دارها.
ولأن ليون هي المدينة التي شهدت ولادة السينما على يد الأخوين أوغوست ولوي لوميير في نهاية القرن التاسع عشر، فالفنّ السابع فيها أشبه بتراث وتقاليد ونمط عيش. الصالات مكتظة على الدوام بمشاهدين من الأعمار والاهتمامات كافة، ولا يهم إذا كان الفيلم المعروض سبق أن بثّه التلفزيون قبل فترة قصيرة، فجمهور ليون يعرف تماماً الفرق بين معاينة عمل على بقعة صغيرة في المنزل واكتشافه على شاشة ضخمة في صالة حقيقية.
أذهلني مثلاً أن الصالة التي عرضت «سينما باراديزو» لتورناتوري كانت ممتلئة حد أن البعض افترش الأرض. وعندما سُئِل المشاهدون مَن بينهم سبق أن شاهد الفيلم (تقليد بات متّبعا في المهرجان أخيراً)، كثر ردوا بالإيجاب، لكن هذا لم يمنعهم من العودة إلى مشاهدته مجدداً.
أما عرض الافتتاح الأسطوري في صالة توني غارنييه التي تسع خمسة آلاف شخص، فلا يمكن لبضعة أسطر ان تصف ما تشعر به وأنتَ محوط بهذا الكم الهائل من الناس وهم يتفاعلون مع ما يمر على الشاشة، خصوصاً إذا كان يمد المتلقي بأحاسيس مثل الضحك والخوف والاثارة.
لا تقل عنها روعةً عروض أوديتوريوم أوركسترا ليون الوطنية التي تقدّم كلّ عام فيلماً صامتاً مع مرافقة موسيقية حية، على سبيل رد الاعتبار إلى السينما غير الناطقة. كيف ننسى أيضاً المدرج الخاص بمركز المؤتمرات الليوني، حيث يمكن لبضعة آلاف أن يجلسوا على كراسيه.
في هذا المكان جرت العادة ان تُسلَّم جائزة لوميير المرموقة التي أُسندت في السنوات الخمس عشرة الماضية إلى كبار الشخصيات السينمائية، من كلينت إيستوود إلى جيرار دوبارديو مروراً بميلوش فورمان ومارتن سكورسيزي وجاين كامبيون وكاترين دونوف، وصولاً إلى إيزابيل أوبير التي استحقتها هذا العام بعد نحو نصف قرن من العمل في السينما.
بقية العروض موزعة بين صالات معهد لوميير الذي ينظّم الحدث وصالات تجارية في وسط المدينة، مثل أو جي سي وباتيه وغيرهما، حيث الأفلام القديمة تتعايش في تناغم مع أحدث الإنتاجات الهوليوودية.
لكن، مَن يقف خلف فكرة هذا المهرجان الذي يحمل شعار «سينما للجميع»، وهو شعار لا يفرق بين فيلم جماهيري حقّق إيرادات ضخمة وجواهر منسية وسينما المؤلف؟ قبل أكثر من عقد ونصف العقد، خطر لكلّ من المخرج الفرنسي الراحل برتران تافرنييه (1941 – 2021) وتييري فريمو (المفوض العام لمهرجان كانّ) رد الاعتبار إلى مسقطهما ليون من خلال السينما، والعكس يجوز أيضاً. كلاهما من أصحاب الباع الطويل في نشر ثقافة الشاشة في بلد يملك تراثاً هائلاً في هذا المجال. الأول شغل منصب رئيس معهد لوميير حتى رحيله (حلّت محله الممثّلة إيرين جاكوب)، والثاني مديره العام.
أي مكان أفضل من ليون للاحتفاء بهذا الفنّ وجذب كبار السينمائيين إلى الشارع الذي يُعرف بـ«شارع الفيلم الأول»، حيث يقع المعهد وحيث نصب لوي لوميير كاميراه ليصوّر خمسين ثانية ممّا أصبح لاحقاً أول فيلم في تاريخ السينما: «الخروج من مصنع لوميير في ليون».
وفي ليون التي هي ثالث كبرى المدن الفرنسية حجماً، يحتل الأخوان لوميير مكانة بارزة في الوجدان الجمعي. اسم العائلة الصناعية في العديد من الأماكن، يرتفع فوق الجادات والمعاهد وواجهات دور العرض. لكن، سينمائياً كاد الأخوان يسقطان في النسيان، لولا جهود الثنائي تافرنييه وفريمو في صون أعمالهما وتقديمها الى الأجيال الجديدة في شكل لائق وجديد.
أولاً، عبر الحفاظ على إرثهما في المعهد الذي يشرفان عليه؛ ثانياً، عبر الحدث المهم الذي أقيم في كانّ في مناسبة مرور 120 سنة على أول عرض سينمائي وتحوّل لاحقاً إلى فيلم يحمل عنوان «لوميير»، يضم مجموعة كبيرة ممّا أنجزه الأخوان.
الجمهور أهم ركن من أركان المهرجان. معهد لوميير الذي يقدّم برمجة غنية على مدار العام لجمهور من المخلصين، يواصل مع الأيام التسعة التي يستغرقها الحدث، مخاطبة الحشود. في إحدى الدورات الماضية، أخبرتني إحدى العاملات في المعهد ان تذاكر الافتتاح نفدت خلال 48 ساعة من تاريخ طرحها، علماً أنه لم يكن قد تم الإعلان بعد عن فيلم الافتتاح. هذه هي روحية جمهور المهرجان.
عندما سألتُ تييري فريمو عن شعار المهرجان، «سينما للجميع»، وسياسته الواضحة التي تقضي بالاقتراب من الجمهور، على نقيض كانّ المخصص للمحترفين، كان جوابه: «لا نقترب من الجمهور. «نحن» الجمهور! فهذا المهرجان هو ما كنّا نتمنى ان نتابعه لو كنّا في صفوف المشاهدين. هذا تحصيل حاصل بالنسبة إلينا.
هناك شيء أؤمن به كثيراً وهو النجاح. هذا لا يعني ان مَن لا يحظى بنجاح ليس جيداً. ما أعنيه هو أنه عندما نرغب في تقديم مهرجان يتماهى إلى هذا الحدّ مع المدينة، يجب ضم الجمهور اليه ويجب ان يكون مفتوحاً للجميع.
ثم، نحن باعتبارنا «نشطاء ثقافة» أو «مكافحين من أجل الثقافة»، نؤمن أن للسينما مكانها في المجتمع والمدينة والحياة. لكن، لا يكفي أن نؤمن بذلك، فعلينا إثباته وتأكيده. نحن مكلّفون هذه المهمة. علينا أن ندفع بهذا كله إلى الأمام. علينا أن نحرص على تأهيل أجيال جديدة من المشاهدين. للعمل الفنّي قدرة على تغييرك من الداخل. نعرض هنا 140 عملاً فنياً. نحب بعضها ولا نحب بعضها الآخر، فهذا غير مهم. المهم أننا وجدنا هنا معاً من أجل هذه الأعمال التي تجمعنا».
الأفلام في لوميير هذا العام بالعشرات، موزّعة على أقسام مختلفة. من استعادة مخصصة للمخرج الأميركي فرد زينيمان إلى مجموعة أدوار لعبها الياباني توشيرو ميفون في أفلام كوروساوا وغيرها، فإضاءة على كوستا غافراس وإيسيار بولان وفانيسّا بارادي وكزافييه دولان.
أما الأمسيات السينمائية الطويلة حتى طلوع الضوء، فهذه من أبرز محطات المهرجان الذي نظّم هذا العام سهرتين، واحدة على شرف أليخاندرو خودوروفسكي (ثلاثة أفلام دفعة واحدة) وأخرى مخصصة لأفلام الرعب.
دخل المشاهدون الصالة في بداية الأمسية وخرجوا منها مع بزوغ الفجر. ورغم تاريخه القصير نسبياً، هناك عروض لا تزال في ذاكرتي، منها واحد لفيلم «الإيرلندي» لمارتن سكورسيزي (قلّة شاهدته في الصالات) أو النسخة الكاملة والمرمّمة لـ«القرن العشرون» لبرناردو برتولوتشي أو «ريدز» لوارن بيتي. أما «آل فايبلمانر» لستيفن سبيلبرغ فخرجتُ منه باكياً.
تأتي العروض بالعديد من المشاهير إلى ليون، من ممثّلين ومخرجين، يحضرون المهرجان كلّ عام. هكذا وجدتُ نفسي ذات ليلة على بُعد خطوات من جان بول بلموندو، في واحدة من آخر إطلالاته قبل رحيله، وهكذا أتيحت لي محاورة ليف أولمان ذات مرة، وهكذا جلستُ أيضاً إلى جوسيبي تورناتوري في مقابلة حصرية.
ككلّ عام، مجموعة كبيرة من الأسماء بعضها لقامات كبيرة حضرت إلى ليون، وبعضهم قدّم دروساً سينمائية: كوستا غافراس، أليخاندرو خودوروفسكي، كلود لولوش، ألفونسو كوارون، مارين كارميتز، جاك أوديار، وغيرهم. على مدار السنوات السبع الأخيرة، حضرتُ كمية من هذه الدروس السينمائية، من وليام فريدكين إلى جيمس غراي مروراً بمونيكا بيللوتشي.
يبدو أن لا أحد يقول «لا» لتييري فريمو، المفوض العام لأكبر مهرجان سينمائي في العالم (كانّ)، إذ يكفيه أن يرفع السمّاعة لإحضار أي كان، رغم ان الرجل يحاول التنصّل بذكاء شديد من فكرة أن الفضل يعود اليه لاحضارهم، مقترحاً سببا آخر: فكرة أن هناك مكاناً في هذا العالم هو مهد السينما، فهذا أمر يدفع بالكثيرين إلى المجيء إلى ليون. في رأيه أننا لا نعلم ولن نعلم أصل الفنون الأخرى مثل الرسم والأدب والموسيقى، خلافاً للسينما التي نعرف جيداً أين مهدها، وهو في ليون.
في اليوم ما قبل الأخير للمهرجان، جرت العادة إعادة تمثيل فيلم «الخروج من مصنع لوميير في ليون»، تقليد يُقام كلّ سنة في الهنغار الذي صُوِّر فيه عام 1895، وسبق أن شارك في هذا الطقس مارتن سكورسيزي ووانغ كار واي وفرنسيس فورد كوبولا وفيم فندرز وغيرهم.
هذه السنة، مخرجة الريميك كانت إيزابيل أوبير، 71 عاماً، التي كرّمها المهرجان بجائزة لوميير، وكان يمكن لزائر المدينة أن يرى صورها مرفوعة في أماكن كثيرة على شكل ملصقات. عُرضت لها مجموعة من الأفلام ضمن فقرة استعادية، راسمةً صورة شاملة عن مسيرة حافلة اشتغلت خلالها مع كبار السينمائيين من كلود شابرول وميشائيل هانكة ومايكل تشيمينو.
قدّمت أوبير مؤتمراً صحافياً وشاركت في لقاء مفتوح مع الجمهور تحدّثت فيه عن تجربتها في الوقوف قبالة الكاميرا، أما حفل تسلّمها الجائزة من يدي المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون، فكان لحظة لا تُنسى.
اقرأ أيضا: أليخاندرو خودوروفسكي: الفنّ والشفاء مرتبطان جوهرياً