في عرضه الأول في مصر، احتشد جمهور كبير بصالة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية لمشاهدة فيلم التحريك «مذكرات حلزون Memoir of a Snail»، المشارك في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والأربعين. لا أستبعد أن يكون الكثير من هؤلاء المشاهدين دخلوا إلى القاعة بقليل من الطموح وكثير من التشكك في فيلم مُعدّ بتقنية إيقاف الحركة، ولكنني على يقين بأنهم خرجوا محملين بمشاعر إيجابية كمن اختبر لتوه مفاجأة سعيدة. فطوال 95 دقيقة هي مدة الفيلم، لم ينقطع تفاعل الجمهور بالضحك في بعض الأحيان، والصمت المعبر في أحيان أخرى، حتى أن بعضهم اعترف أنه كان على حافة البكاء في كثير من المشاهد.
«مذكرات حلزون» هو الفيلم الطويل الثاني للمخرج آدم إليوت بعد 15 عامًا مرت على عرض فيلمه الأول «ماري وماكس Mary and Max» والذي افتتح مهرجان صندانس السينمائي، وفاز عنه حينها أيضًا بالجائزة الكبرى من مهرجان آنسي لأفلام الرسوم المتحركة.
حقق فيلم مذكرات حلزون إنجازًا تاريخيًا هذا العام عندما اقتنص الجائزة الكبرى من اثنين من أكبر المهرجانات العالمية، فإلى جانب فوزه بجائزة أفضل فيلم من مهرجان آنسي لأفلام الرسوم المتحركة بفرنسا، وهو من أكبر المهرجانات المتخصصة في أفلام التحريك، فقد فاز كذلك بجائزة أفضل فيلم من مهرجان لندن السينمائي. وسبق لإليوت الفوز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم تحريك قصير عام 2004 عن فيلمه «هارفي كرامبت Harvie Krumpet».
يحكي الفيلم قصة حياة جريس وأخيها التوأم جيلبرت، وهي قصة مأساوية لعائلة عصفت بها النوازل منذ أول لحظاتها، فقبل الولادة وأثناء حمل الأم، أصيب الأب في حادث تسبب فيه سائق مخمور وأدى إلى إصابة الأب بشلل نصفي وتركه قعيدًا حبيسًا لكرسيه المتحرك. أما لحظة الولادة فقد كانت هي نفسها لحظة وفاة الأم، لتبدأ حياة جريس وجيلبرت كيتيمين. منذ الولادة عانت جريس من حالة طبية تعرف بالشق الحلقي، وهي عبارة عن تشقق في الشفة العلوية تسببت في تعرضها للكثير من التنمر من قبل أقرانها الذين اعتادوا على نعتها بـ«شفة الأرنب».
لم يكن التنمر أقصى مخاوف جرايسي ومسببات تعاستها، ولكنها كانت على موعد مع طفولة شديدة البؤس، فبعد سنوات قليلة توفي الأب وافترقت جرايسي عن أخيها بعد أن تكفل بهما أسرتان تعيشان على أقصى طرفي البلاد. كانت جرايسي من نصيب أسرة مستهترة من هواة التعري الذين لا يتورعون عن ممارسة أكبر الانحرافات الجنسية، وانتهى بهم الأمر إلى ترك جرايسي للعيش في إحدى مستعمرات العراة. أما جليبرت فجاءت قرعته من نصيب أسرة متشددة دينيًا، استعبدته وأجبرته على العمل في مزرعة تملكها لإنتاج وتوزيع التفاح.
يمتلك آدم إليوت أسلوبًا بصريًا فريدًا، إذ تهيمن على أفلامه الألوان القاتمة والأجواء المظلمة، ولا تغريه الأجواء الاحتفالية والألوان الزاهية والمرحبة التي تسم هذا النوع من الأفلام في محاولتها لاجتذاب جمهورٍ أوسع من الأطفال. وربما بسبب ذلك، ومنذ بدايته، يتخذ الفليم مسافة واضحة من تلك السمات، فلا يخشى أن يقترب من موضوعات قاتمة مثل الموت، أو جريئة مثل الجنس، بل إنه يغالي في تصوير الإعاقات الجسدية مثل الشق الحلقي أو الانحرافات الجنسية مثل ممارسة الاستمناء أو اشتهاء السمنة.
مثل هذه العناصر والمكونات البصرية تقتحم المشاهد منذ المشاهد الأولى للفيلم، وتهمش من النوع وسماته السائدة كفيلم تحريك بتقنية إيقاف الحركة، لصالح المعالجة السينمائية والبصرية التي تهيمن على المشاهد فيتابعها كما لو كان فيلما حيًا تقليديًا، فينسى المشاهد أنه يتماهى مع مجسمات صماء لا تقدر على الحركة أو النطق فضلا عن الإحساس بالمشاعر.
هذه القتامة المسيطرة على الأسلوب يكسرها حس كوميدي عميق وتمكن واضح من أدوات الكوميديا بأنواعها المختلفة التي تراوح ما بين الكوميديا السوداء وكوميديا الموقف والكوميديا البصرية، وتمنح المشاهد الفرصة للتنفيس مع تنقل السرد بين البطلة والشخصيات المحيطة بها، وقصصها الغارقة في الكآبة النابعة من مشاعر الفقد والنبذ، والوحدة التي تبدو كسيل جارف يعصف بكل شخصيات الفيلم حتى الثانوية منها، مثل العجائز الذين يسكنون بيوت المسنين ويفتقدون أبسط أشكال التواصل المادي مع المجتمع وهو ما ألهم شخصية بينكي أن تتطوع لزيارة هؤلاء المسنين، فقط لمجالستهم والتواصل الجسدي معهم باليد، وهي فكرة رومانسية بكل تأكيد ولكنها في الوقت نفسه لا تخلو من كآبة كامنة.
في أحد المشاهد، وبعد تعرضها للتنمر من قبل بعض الأطفال في المدرسة، تتقوقع جرايسي على نفسها في وضع جنيني، ولكن إليوت يسارع برسم قوقعة حلزون تغطيها بالكامل ليجسد من خلال الصورة تماهيها التام مع الحلزون الذي يمثل شغفها الأكبر في الحياة. هذه القوقعة الرمزية، هو مجاز تحمله جرايسي طوال حياتها بوعي أحيانا، كما في ارتدائها لقبعة الحلزون التي حاكها الأب، وبغير وعي في أحيان أخرى حتى أنها تكاد لا ترى كيف تحولت غرفتها ومنزلها بالكامل إلى طواطم على شكل حلزون بتنويعات مختلفة الأحجام والألوان، مثل التماثيل الخزفية، وصندوق الموسيقى، والمجوهرات، وحتى الواقيات الذكرية.
يحيلنا اسم الفيلم، «مذكرات حلزون»، ونوعه كفيلم تحريك بتقنية إيقاف الحركة، إلى انطباع بسيط ومباشر بأن بطله من تلك الرخويات اللزجة، ولكننا نكتشف منذ البداية أن الحكاية التي ترويها جرايسي هي حكايتها الشخصية ومذكراتها الخاصة. وهي حيلة سردية ذكية يتبنّاها الفيلم الذي يقدم بناءً سرديًا مركبًا، وينتقل بسلاسة بين حكايات الشخصيات على ألسنة مختلفة، وباستخدام تقنيات متنوعة، سواء بالسرد المباشر الذي تقوم به جرايسي لقصتها، أو من خلال الرسائل المتبادلة بينها وبين أخيها أو تلك الرسالة الأخيرة التي تركتها لها بينكي.
أحد أوجه براعة هذه الحيلة تتمثل في التحايل على تقنية مزامنة الشفاة lip sync وهي تقنية مكلفة للغاية تستخدم في مثل هذا النوع من الأفلام لتبدو الكلمات على ألسنة المجسمات طبيعية وواقعية إلى أقصى درجة. لجأ إليوت إلى هذه الحيلة التي جعلت من الحوار المباشر بين الشخصيات أمرًا نادرًا لقلة الموارد وتواضع ميزانية الفيلم، ولكنها في الوقت نفسه لم تفقد الفيلم شيئًا يذكر من أثره، سيما مع اختيار الممثلة الأمريكية سارة سنوك بطلة مسلسل خلافة Succession الشهير لتقوم بالأداء الصوتي لشخصية جرايسي، وهو ما نجحت فيه بشكل كبير بأداء رقيق وحزين ومؤثر، دفع الكثير من المشاهدين إلى حافة البكاء.
نرشح لك: «جلادياتُر2»…لا شيء يوقف ريدلي سكوت عن صناعة الأفلام