فاصلة

مراجعات

«مدّعيان عامان» لسيرغي لوزنيتسا.. بطلٌ تراجيدي في أوج الطغيان الستاليني

Reading Time: 4 minutes

بعد أن استجلى في الوثائقي الأرشيفي «جنازة رسمية» State funeral (2019) مظاهر عبادة الشخصية السياسية البادية في تأبين جوزيف ستالين عقب موته عام 1953، يعود سيرغي لوزنيتسا للتّخييل في فيلمه الأحدث «مدّعيان عامان» Two prosecutors، المشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ78 لمهرجان كان، ليعود بالزمن إلى عام 1937 في أوج التسلط الستاليني، إذ تفلت رسالة السجين السياسي ستيبنياك من سيطرة الحائط الحديدي فتقود إلى اكتشاف المدعي العام الشاب كورنييف النقاب عن فساد جهاز المخابرات السوفييتي، ويصبح سعيه لتحقيق العدالة في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية في عهد ستالين رحلة خطرة في قلب نظام يأكل نفسه من الداخل.

Two Prosecutors (2025)
Two Prosecutors (2025)

فكرة النظام الذي يأكل نفسه من الداخل فكرة تجريدية في حد ذاتها، لذا فإن اختيار لوزنيتسا لتركيبة سرد عبثية للتعبير عن تلك الفكرة يبدو اختيارًا وجيهًا. 

يظهر اختيار لوزنيتسا للعبث في كل تفاصيل الصورة، انطلاقًا من ديكور المعتقل بالغ التجريد وإحالاته إلى المسرح العبثي عبر استثمار الفراغات وندرة الأثاث، والتركيز على ألوان مثل الأخضر الزيتي والرمادي البارد. تشكل هذه البنية البصرية قاسمًا مشتركًا بين زنازين المعتقل وردهات المحاكم، ليغدو الاتحاد السوفياتي في عهد الرعب الستاليني – كما يصوره المخرج الأوكراني- سجنًا كبيرًا من دون قضبان، مترهل حتى في المرحلة التي ينظر غليها باعتبارها مرحلة فتوة الاتحاد السوفيتي وقوته. 

«مدّعيان عامان» لسيرغي لوزنيتسا.. بطلٌ تراجيدي في أوج الطغيان الستاليني
Two Prosecutors (2025)

كان أبرز تمثيل لحالة الاتحاد السوفيتي المترّهلة والمتداعية، هو واجهة المعتقل الآيلة للسقوط التي تركز عليها الكاميرا طويلاً في بداية الفيلم، وكأنها تبغي أن تضعنا في أجواء القصة وسياق الحدث منذ اللحظة الأولى، ونرى كيف يُستخدم لترميم ذلك الاهتراء سجناء في حالة رثة، يقدرون على الوقوف بالكاد. 

ندخل الفيلم المقتبس عن قصة للكاتب الناجي من الغولاغ (السجن السياسي) جيورجي ديميدوف من باب يتسع عن مجرد شفقة بدائية على معتقلين سياسيين. وسلاح لوزنيتسا في ذلك؛ كوميديا تنتمي لجنس Pince-sans rire أو الكوميديا اللاذعة التي تخلق لدى المشاهد ضحكة مكتومة غير أنها مفعمة بالمعنى.

التقاطعات بين الثورة التي تأكل أبناءها وحالة الإرهاب الستاليني عديدة، لعل أبرزها مثالية المحقق كورنييف الذي ينجح أخيرًا في مقابلة المعتقل صاحب الرسالة ستيبنياك، فيجده شيخًا متعبًا ومثخنًا بجراح التعذيب على يد رجال MKVD (المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية). يُسرّ كورنييف لستيبنياك أنه يتذكّر حلوله ضيفًا بكلية القانون ليحاضر – بصفته مفكّرًا- حول موضوع «الحقيقة البلشفية الكبرى». مرّت السنين وتخرّج كورنييف وعُيّن مدّعيًا عامًا لتكون إحدى أولى قضاياه التحقيق في ظروف اعتقال السجناء وتعرضهم للتعذيب قبل أن يصله خطاب مُحاضره السابق، ليكون مثالاً دالاً على «الحقيقة البلشفية» ومآلها الكابوسي.

«مدّعيان عامان» لسيرغي لوزنيتسا.. بطلٌ تراجيدي في أوج الطغيان الستاليني
Two Prosecutors (2025)

يتبنى المخرج اللقطات القريبة ليلائم مشاهد الحوارات الكثيفة، وقراءة الإيماءات على وجه كورنييف ومحاوريه من دواليب بيروقراطية الدولة بمختلف رتبهم. من جهة أخرى، لا يمكن ألّا نتذكر روي آندرسون وعوالمه الباردة التي تسكنها شخصيات متجاوزة وغير مدركة لحقيقة شرطها، حين يختار لوزنيتسا في لحظات نادرة أن يلتقط شخوصه في لقطات ثابتة وبعيدة (لا مكان هنا للقطات المتابعة المعتادة عند لوزنيتسا) تأخذ مسافة من الأحداث وتشي بحالة انسياق جماعي، تظهر في ظله ردود الفعل الخانعة المستسلمة لأكثر الطقوس إغراقًا في العبثية، مثل الانتظار لساعات في قاعة مزدحمة لمقابلة مسؤول قضائي قبل أن يأتي الفرج الجماعي على شكل أزيز مزعج، وكأنه شيء عادي. 

لا يظهر المحقق كورنييف تفاعلًا كبيرًا مع محيطه، ولا تنبئ نظرته الباردة من وراء أنفه المعقوص عمّا يدور في خلده، لكنه ينتفض ذعرًا كلما سمع أزيز جرس سكرتير المدعي العام الذي ينبئ بانتهاء مقابلة وبدء أخرى جديدة، ما يؤشر على أنه بطلٌ حقيقي يداري خوفه وراء قناع من البرود وادعاء عدم الخوف من العواقب. نعم، على عكس الأبطال الهوليوديين الخارقين الذين يندفعون في سيناريوهات عاجلة لإنقاذ العالم وكأنهم لا يخشون شيئًا، ويواجهون الموت بوجه مكشوف؛ كل الأبطال التراجيديين منذ العصور الإغريقية يخشون مصيرهم المحتوم رغم إقدامهم الظاهر، تمامًا مثل كورنييف الذي تدلّ كل المؤشرات على نهايته القاتمة (لا تشويق محتمل هنا وحتى ستبنياك يحذّره من ذلك سلفًا) لكنه يمضي في اختياره إلى أبعد نقطة، وكأنه بدوره يقع ضحية لطقس ستاليني رهيب يقتل كل مختلف وأصلي ولا يمجد سوى مظاهر الخنوع والامتثالية.

«مدّعيان عامان» لسيرغي لوزنيتسا.. بطلٌ تراجيدي في أوج الطغيان الستاليني
Two Prosecutors (2025)

ينتهي الفيلم بباب المعتقل الذي يُغلق وراء سيارة تحمل المتّهم الذي لم يرتكب جرمًا إلى وجهته المحتومة (كيف لا نتذكر نهاية«المحاكمة» والرجلان اللذان يحملان جوزيف ك. إلى حتفه وهو لم يدرك بعد تهمته)، بعد أن استُهلّ الفيلم بالباب نفسه وهو يفتح في وجه كورنييف، فيُغلق هذا القوس السياسي الآسر حلقةً أخرى من حلقات المنعرج الجهنمي الذي أخذته الثورة البلشفية، وكأن لوزنيتسا يقول أن مسلسل الاستبداد والانقلاب على الثورات لا ينفكّ يعود في شكل مختلف وبأسماء جديدة، ولكن جوهره واحد إلى غاية يومنا هذا وفي كلّ الأقطاب حيثما «يُستبدل ذوي الاستحقاق بدجّالين جهلة».   

اقرأ أيضا: حسن هادي: «كعكة الرئيس» صورة مصغّرة لعصر صدام حسين

شارك هذا المنشور

أضف تعليق