إذا حاولت أن أتذكر المرة الأولى التي رأيت فيها وجه “محمود المليجي”، فربما تكون دوره في فيلم “إسماعيل يس في الأسطول”، يحاول المليجي في هذا الفيلم الزواج من حبيبة “سُمْعَه”، شاهدت الفيلم كمعظم المصريين وأنا طفل صغير، حينها كانت أفلام “إسماعيل يس” بالأبيض والأسود وِرْد يومي على التليفزيون المصري في عصر ما قبل الأقمار الصناعية والفضائيات.
كان المليجي في هذا الفيلم شريرًا نمطيًّا كما كان في مئات الأفلام الأخرى التي شارك فيها خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، الشر هنا كان واضحًا للغاية لدرجة أن شخصيته حملت اسم “عباس الزفر”، تعاطفنا كمشاهدين صغار وكبار بالطبع مع إسماعيل الطيب خفيف الظل، وأردنا مثله الانتقام من عباس الزفر (المليجي) ومن يمثله.
في لقاء تلفزيوني قديم مع الإعلامي المصري “طارق حبيب”، صرح المليجي أنه تعرض أحيانا للسب من الجمهور في شوارع مصر لأنهم لم يفصلوا بين شخصه في الواقع وبين شخصياته الشريرة في السينما. هكذا تمامًا كنا نفكر كأطفال، كنا نظن أن المليجي شرير نخشاه ونتمنى ألا نلقاه.
حينما أنظر لهذه اللحظات التي شهدت تعرفي على المليجي للمرة الأولى لا أصدق كيف تحولت مشاعر الخوف والرهبة إلى محبة شديدة، مرت السنون ورأيت وجها آخر للمليجي في أفلام أخرى، درست الطب وتخصصت في الطب النفسي، كتبت عن الأفلام وصرت بعد دراسة ناقدًا. كيف تطورت علاقتي بـ المليجي خلال هذه الرحلة؟ وكيف تغيرت رؤيتي لفن التمثيل من خلاله؟ والأهم كيف أصبح هذا الرجل ممثلي العربي المفضل؟
الأرض
لحظة التنوير الأولى التي أضاءت أن للمليجي وجه آخر، جاءت من خلال فيلم “الأرض” 1970، ليوسف شاهين والكاتب عبد الرحمن الشرقاوي.
حينما شاهدت “الأرض” للمرة الأولى وأنا لازلت في سنين الطفولة، في واحدة من المرات القليلة التي عُرض فيها على التليفزيون المصري، فوجئت تمامًا بالمليجي، تماهيت مع شخصية “محمد أبو سويلم” وأحببته، تعاطفت معه لكني استغربت اختيار المليجي في هذا الدور. أتذكر بشكل واضح أنني سألت أمي يومها لماذا لم يقم بالدور شخص آخر ممن اعتدنا عليهم في دور البطولة، دور البطل الطيب، هذا التساؤل الطفولي ساهم في تغيير رؤيتي لفن التمثيل عقب ذلك.
حينما بدأت في متابعة السينما غير التجارية، أحببت أفلام الواقعية الإيطالية مراهقًا، ثم وقعت في غرام السينما الإيرانية شابًا. أعدت مشاهدة “الأرض” وأفلام يوسف شاهين التي صنعها بعد هزيمة 1967. وحينما خرجت من هذا الماراثون السينمائي، تعرفت على المليجي كما لم أعرفه من قبل.
في “الأرض” شاهدت مرة أخرى وبعيون مختلفة المليجي وهو يقدم الأداء التمثيلي المفضل بالنسبة لي في كل ما شاهدته من السينما العربية، وهو بالتأكيد ضمن أفضل 5 أداءات شاهدتها في السينما عمومًا.
يقدم المليجي في دور “محمد أبو سويلم” دور فلاح مصر معتز بنفسه وبكرامته، يحب أسرته وأهل قريته حتى لو ضاق ذرعا بجبنهم، ولا يخشى الاحتلال أو أعوانه. حينما يتم القبض عليه وتعذيبه ثم حلق شاربه لإذلاله، لا يبكى، يخفى وجهه، ثم حينما يعطف عليه أحد أفنديات القرية بقليل من المال، تظهر الدموع في عينيه لكنها تتحجر ولا تنزل.
لا يتورط المليجي في “الأرض” في أي لحظة في أداء مكرر وتقليدي للفلاح المصري، يصبح المليجي هو أبو سويلم ولا يقلده، يجسد كل ما فيه من قوة وضعف، كل ما في أرض مصر من مر وكل ما في الثوار من أهلها من كرامة.
الصدق رغم الحصار في النمط
رغم الحصار داخل نمط دور الشرير الكلاسيكي طوال ما يزيد عن ثلاثين عامًا؛ طور المليجي طريقته في الأداء اعتمادًا على الصدق، يبدو ذكر الصدق نمطيًّا وغير محدد حينما نتحدث عن التمثيل، لكنه يظل الوصف المناسب لأداء المليجي.
يحكي الفنان المصري الراحل “توفيق الدقن” في أحد حواراته التليفزيونية أنه عندما مثل مشهده الأول مع المليجي، ارتبك عندما نظر إلى عينيه ولم يستطع نطق السطور التي حفظها، طلب المليجي حينها استراحة قصيرة لتدخين سيجارة وشرب فنجان من القهوة، واصطحبه وطلب منه تصديق ما قرأه وعدم حفظه؛ كانت نصيحة المليجي له هي الإحساس بما تريد شخصيته أن تقوله، ثم صياغته بالشكل الذي يشعر أنه حقيقيّ، قال له: “هذا النص ليس قرآن، لا تحفظه، أشعر به وصدقه ثم عبر عنه بطريقتك”.
هذه النصيحة الهامة وجدها الدقن أكثر قيمة من كل ما تعلمه في معهد الفنون المسرحية.
هكذا كان أداء المليجي: تصديق ما يؤديه، الشعور به، حينها يصبح هو الشخصية، وحينها تخرج الكلمات من فمه بصياغته.
العيون
يقول الممثل البريطاني الحائز على جائزة الأوسكار مرتين “مايكل كين”، في كتابه “التمثيل في الأفلام Acting In Film*: “في نهاية اليوم، وعندما يتعلق الأمر بالتمثيل في الأفلام، فإن كل شيء يدور حول العيون”.
عيون المليجي مسيطرة، حكايات كثيرة عن هذه الروح التي تتملكه أمام الكاميرا، من قصة توفيق الدقن التي ذكرناها من قبل، لحكاية شهيرة للفنان المصري الكوميدي أحمد بدير الذي شارك المليجي خشبة المسرح في أول دور له. يخبر بدير الممثلة والإعلامية المصرية ” صفاء أبو السعود” في لقاء تليفزيوني أنه طلب من المليجي أن يعطى له المساحة أن يرتجل جملة قبل أن ينتهي دخوله الصامت على المسرح، وافق المليجي دون تفكير، حينما أتت اللحظة يحكي بدير أنه رأى عيون المليجي فتجمد ونسي تمامًا ما أراد أن يقول، صمت للجميع للحظة وحينها شعر بأن عيون المليجي تخترق روحه وتجبره من الداخل على الحديث فتحدث وكان ارتجالًا ناجحًا فتح له أبواب النجومية من بعد.
حينما تأتي سيرة المليجي وعيونه يبدو الجميع متفقين على تأثيرها وهيبتها، ذكرنا مشهد الأرض الشهير، لكن المشهد الذي يؤثر في شخصيًّا في كل مرة وكأنها المرة الأولى هو مشهد له من فيلم آخر ليوسف شاهين.
اسكندرية ليه ؟!
في فيلم “اسكندرية ليه؟!” من إنتاج 1979، حينما يغادر يحيى ميناء الإسكندرية في الاتجاه لأمريكا لدراسة السينما يقف والده ووالدته وأخته مودعين على سلالم الباخرة، الأيام الأخيرة مرت سريعًا في محاولات مستميتة منهم لتدبير أموال السفر و التأشيرة، الأب الذي كان رافضًا في بداية الحكاية أدرك متأخرًا أنه لم يخبر ابنه كم يحبه وكم سيفتقده، يكتب “يوسف شاهين” هنا جملة غاية في البساطة للتعبير عن كل ذلك في لحظة الوداع الخاطفة، يقول الأب في صوت يبدو كما لو كان مختلط بالبكاء “هشاورلك بالجامد أوي عشان تعرفني”، حينما أشاهد عيون المليجي وهو يقول هذه الجملة أتجمد، لا أتمالك دموعي في كل مرة، يخترق مشاعري تمامًا ويصل لشرخ لا يلتئم في قلبي، أرى في كل مرة والدي في عينيه وهو يودعني في كل مرة أترك فيها مصر دون أن أعرف متى سنلتقي مجددًا.
يخبرنا “نور الشريف” في أحد حواراته التليفزيونية أن المليجي قد أخبره أنه ظن أن الحياة ستتغير بعد ما قام ببطولة فيلم الأرض، ظن أنه سيجلس وسيستقبل عروض أدوار البطولة واحدًا تلو الآخر، لكن هذا لم يحدث فاضطر الرجل لقبول ما أتاه، والغريب أنه في العشر سنين التالية لم يتم طلبه إلا في أدوار صغيرة مع استثناء أدواره في أفلام شاهين.
حينما صنع النقاد قائمتهم على هامش مهرجان القاهرة السينمائي في 1996 تم اختيار الأرض في المركز الثاني ضمن أفضل 100 فيلم مصري تاريخيًا. وفي عام 2013 حينما اختار النقاد على هامش مهرجان دبي السينمائي قائمة أفضل 100 فيلم عربي جاء “الأرض” في المركز الرابع.
كيف عاش الرجل الذي حمل قيمة فيلم “الأرض” تمثيلا على أكتافه 13 عامًا عقب ذلك وهو يعمل في عشرات الأفلام التي لا تعطيه ولو مساحة صغيرة لصنع ما يجيده؟!، يبقى سؤال “ليه؟” بلا إجابة، لكن الأهم أن شاهين في بضع سنين قدم للسينما العربية هدية هائلة، بأن قدم لنا المليجي في المساحة التي يستحقها، ممثل عظيم من عملة نادرة.
ربما يتذكر الكثيرون أيضًا كيف ترك المليجي عالمنا، من كواليس تصوير فيلم “أيوب” حينما جلس مع “عمر الشريف” ليتناول فنجان من القهوة، ثم أغمض عينيه وظن “عمر” أنه قد نام ثم اكتشفوا أنه قد فارق الحياة. لكن الصدفة التي أريد أختم بها حكايتنا والتي قد لا تبدو مهمة سوى في سياق شخصي أن المليجي ممثلي العربي المفضل قد أتى للدنيا في 22 ديسمبر، وهو نفس اليوم الذي انضممت فيه للحياة. ربما هكذا سأتذكره وأتذكر ما تركه لنا في ديسمبر من كل عام.
اقرأ أيضا: سيلفستر ستالون… الرّجل الذي لاكم قَدَرَه