«فيراري» لا تشارك في السباقات لبيع السيارات، بل تبيع السيارات لتمويل سباقاتها الخاصّة. تلك هي الفكرة الرومانسية التي كانت تقلق راحة مؤسس الشركة إنزو فيراري. فيلم «فيراري» (2023) أيضاً هو فكرة أو حلم رومانسي راود المخرج الأسطوري مايكل مان (1943)، حلم دام حوالي 30 عاماً، مشروع شهد تسارعاً وتباطؤاً، حتى ممثليه الرئيسيين تبدلوا أكثر من مرة.
يعدّ عرض الفيلم في «مهرجان البندقية» (فينيسيا) الأخير ثم «مهرجان البحر الأحمر» فوزاً للمخرج الثمانيني، وانتصاراً لنا أيضاً كمشاهدين انتظروا ثمان سنوات لرؤية عمل جديد له. برصانة عنوانه، يحكي «فيراري» عن مؤسس شركة فيراري، وسباق السيارات، والسائقين، ومدينة مودينا، وبالطبع عن السباق الأسطوري، سباق الألف ميل الذي حُظِّر في عام 1957 بعد 30 عاماً. استند مان إلى كتاب بروك ييتس «إنزو فيراري: الرجل والآلة» (1991)، كما اختار التركيز فقط على لحظة محددة في حياة السائق ورجل الأعمال الشهير. لذلك، كل شيء يبدو هامشياً في فيلم يرسم المخطط النفسي لرجل كان الموت رفيقه الدائم. على عكس أفلام السيرة التقليدية، ليست العظمة وحيوية الشخصيات الحقيقية الفكرة الرئيسية في «فيراري»، بل الموت والرحيل.
نحن في عام 1957، وأمور شركة «فيراري» لا تسير على ما يرام. كذلك الأمر بالنسبة إلى مؤسسها إنزو فيراري (آدم درايفر). لقد هزّت وفاة ابنه دينو عن 24 عاماً، كيانَه، فيما سيهتز زواجه من لورا فيراري (بينيلوبي كروز) بسبب هذه الوفاة وعلاقته بلينا (شايلينوودلي)، التي أنجب منها بييرو. بحثاً عن مخرج، يقرّر إنزو أن يراهن بكل شيء في سباق الالف ميل الأسطوري، مع الثقة بأنّ نتيجة كبيرة في السباق ستزيد عدد سيارات فيراري المباعة سنوياً من 89 إلى 400 وبالتالي إنقاذ الشركة، وربما إنقاذ حياته أيضاً. ولكن 1957 هو عام مأساة لفيراري، إذ لقي سائق سيارات فيراري ألفونسو دي بورتوغا حتفه مع مساعده وتسعة متفرجين، من بينهم خمسة أطفال وتم توجيه أصابع الاتهام إلى فيراري. في ذلك العام،انفجرت في وجهه كل التناقضات الداخلية والأزمات الخارجية والنفسية التي كبتها طويلاً، وظهرتفي الفيلم بطريقة ميلودرامية تشبه الاوبرا تقريباً، وتهيّئه لنقطة تحوّل. ومع ذلك، يواصل إنزو حياته، وعندما يخرج من مأزق يتطلع إلى المستقبل، وهذا جزء من طبيعته، فهو ذلك الرجل الذي إذا سألوه عن أفضل سياراته، يجيب دائماً «السيارة التالية».شخص لا يستطيع القيام بعمله بدون السيطرة على كل شيء، ولعل هذا هو السبب وراء افتنان مايكل مان به. فالمخرج أيضاً يحبّ السيطرة والمنهجية في أفلامه، و«فيراري» ليس استثناء. يتعامل مان مع فيلم السيرة هذا بشكل مختلف تماماً عما فعلهمعفيلمه «علي» (2001) الذي تناول سيرة محمد علي كلاي. في «فيراري» تظل السياسة والسياق التاريخي في الخلفية، ويركز المخرج أكثر على الدراما الإنسانية والوجودية لأنزو. كما أنّه وحّد الروابط المشتركة بين أنزو فيراري والشخصيات القريبة من المافيا أو الجريمة في أفلامه السينمائية مثل شخصية نيل ماكولاي الذي جسّده روبرت دينيرو في تحفة مايكل مان «هيت» (1995). فكلاهما رجلان عصاميان، مهووسان بعملهما وبوضعهما الاجتماعي وعدم خسارة المال والشؤون المعقدة، عدا عن الموت المخيّم على حياتهما. يعرف مان تماماً أنه ليس عليك أن تغطّي الحياة الكاملةلشخص ما كي ترسم صورةً حقيقية عنه. حشر في فيلمه أحداث بضعة أشهر في 130 دقيقة، وبما أن الكثير من الأشياء بلغت ذروتها في هذه الفترة من حياة الرجل، فإننا لا نشعر بأي إحساس بالنقصان على الاطلاق.
يحوم الموت باستمرار فوق رأس إنزو، وتم تكييف الفيلم مع الطبيعة الحزينة للموت. على الورق، يعد «فيراري» فيلماً عن رياضة السيارات، ولكن عدد مشاهد السباق المليئة بالإثارة والسرعة تكاد لا تُذكر في الفيلم، عدا مشهد السباق الأخير الذي أبهرنا به مان. في أغلب الأحيان، نرى أشخاصاً يتحدثون ويتجادلون ويتأملون ويختبرون المشاعر. بدلاً من هدير المحرك وصرير الإطارات، كان الضجيج في الخلفية هو الصمت والحزن.
قدم مان فيلمه بصرامة شكلية وحوارات دقيقة جداً وسريعة. ربط الخيوط كلها ببطء شديد، في سرد يجري بسرعة لكن كل مشهد وحوار يظهر في وقته المناسب، وصولاً إلى الجزء الأخير، الذي يعزف فيه مان بطريقة أكثر كثافة ودراماتيكية،فيملأ شاشته بمشاهد لا تُنسى…نتلقّاها بفم مفتوح. يوجّه مايكل مان فيلمه ليس نحو ذروة واحدة، بل اثنتين، إحداهما تحدث بشكل طبيعي في مضمار السباق، والأخرى تنحصربالحوار والمحادثة الحميمية بين إنزو وزوجته، حيث تلعب الشخصيات أخيراً بأوراق مفتوحة. «فيراري» لمايكل مان، عمل مدهش وغامض. يعرف مان كيف يكتب قصة ويسرد حبكة ويقدم مشاهد سباق بأسلوب مرعب، فنحن أمام صانع أفلام استثنائي، بارع في كتابة التراجيديا، جريء، ميلانكولي وخام وشاعري بشكل مثالي.
اقرأ أيضا: “الأحد” قصيدة سينمائية طافحة بالجمال