فاصلة

مراجعات

«ماريا» لبابلو لاراين لا يفي أسطورة كالاس حقّها

Reading Time: 4 minutes

لم يستطع صوت ماريا كالاس الذي رنّ في أنحاء جزيرة الليدو حيث تُقام عروض مهرجان البندقية السينمائي من 28 آب (أغسطس) إلى 7 أيلول (سبتمبر)، إعطاء العمل الروائي المستوحى من سيرتها شرعية سينمائية وزخماً.

 فلا عظمة الشخصية وتفاصيل عيشها الأليم كانتا كافيتين لإنجاز فيلم كبير عنها، ولا المعالجة الفنية ضمنت انتقاله إلى شيء يتجاوز المحض بيوغرافيا. يُقال أن المواضيع العظيمة لا تصنع بالضرورة أفلاماً عظيمة، وهذا ينسحب أيضاً على الفيلم الذي نحن في صدد الحديث عنه. 

«ماريا» لبابلو لاراين، المعروض في مسابقة الدورة الحالية من «الموسترا»، هو الجزء الأخير من ثلاثية عن نساء شهيرات طبعن القرن العشرين كان أطلقها المخرج التشيلياني في العام 2016 مع جاكي كينيدي وواصلها مع الأميرة ديانا (2021) وهو يعود مع جديده إلى الأسبوع الأخير من حياة المغنية الأوبرالية الأسطورة ماريا كالاس التي يعتبرها البعض أعظم صوت في التاريخ.

 توفيت «كالاس» في باريس في العام 1977 بسكتة قلبية وهي في الثالثة والخمسين، لكن الظروف المحيطة بموتها لا تزال غامضة بعض الشيء إذ يُقال أنها انتحرت، الأمر الذي يتركه الفيلم مفتوحاً.

 العديد من الأفلام تناولت سيرة هذه الفنانة المعذّبة، سواء في الروائي أو الوثائقي، ولعل الأكثر اكتمالاً هو«ماريا بعيني كالاس» للمخرج الوثائقي توم فولف. 

بوستر «ماريا بعيني كالاس» للمخرج الوثائقي توم فولف 
بوستر «ماريا بعيني كالاس» للمخرج الوثائقي توم فولف

بعد العملين المذكورين اللذين عُرضا هنا في البندقية، يعود لاراين ليقدّم في الجزء الثالث تصوّراً لما كانت عليه الأيام الأخيرة للديفا، وماذا فعلت فيها وبمَ انشغلت وممّ تكوّنت حياتها في شقيها العام والخاص.

 الفيلم سينشغل بهذه الأسئلة محوّلاً إياها إلى متتاليات بصرية، ناقلاً الصراعات الجوانية للمغنية التي كانت في النقطة التي وصلت إليها في نهاية حياتها قد توقّفت عن الغناء وتعاني من الوحدة وتحاصرها أشباح الماضي لا سيما طيف أوناسيس الذي أحبّته وأحبّها. 

كالاس مصابة بالاكتئاب، والفيلم يجول حول هذه النقطة تحديداً، جاعلاً من العقاقير المضادة للاكتئاب شخصية في ذاتها، وسنرى كيف، عندما نشاهد الفيلم. في زمن ماض، هذه الأشياء كانت لها تمسية واحدة: ضريبة النجاح. لكن، اليوم مع تبدّل المفاهيم في كلّ المجالات، بات من الضروري النظر في عمق السؤال من زاوية أكثر تعقيداً وأقل تحيزاً.

 باختصار، ماريا بحسب لاراين، سيدة مكسورة الخاطر، تعلم أن أجمل أيامها صارت خلفها. يصوّرها المخرج بعين متعاطفة وأخرى فيها شيء من الشفقة، ليتقاطع في النهاية مصيرها مع مصير جاكي وديانا بمعنى ما.  

أنجلينا جولي من فيلم «ماريا»
أنجلينا جولي من فيلم «ماريا»

النيات حسنة والمضمون أشياء من الممكن مناقشتها، لكن هناك بعض التخبّط في النصّ الذي يعاني من تشتت في الرؤية ويتّجه في مسارات متعددة. أما الانفعال الذي من المفترض أن يصل إلى المُشاهد، فيبقى محدوداً قياساً بالاحتمالات التي يوفّرها الزواج بين الموسيقى والسينما.

 رغم أن الفيلم يحتوي على لحظات تحلّق عالياً في فضاء الفنّ السابع، فهي في الأخير لحظات عابرة والفيلم يحط مجدداً في مكانه. إسناد دور كالاس إلى الأميركية أنجلينا جولي، فيه إشكاليات.

«جولي» خضعت لتحضيرات مكثّفة استمرت سبعة أشهر لتقمّص الشخصية قبل أن تبدأ التصوير تحت إدارة «لاراين»، لكن رغم جهودها الواضحة للتسلل إلى داخل الشخصية، كان أداؤها يفتقر أحياناً إلى التوازن والاستمرارية. هناك لحظات نرى فيها «جولي» أكثر ممّا نرى «كالاس»، ممّا يضعّف الانغماس في الشخصية.

 وعلى عكس ما فعله أندرو دومينيك في فيلمه «شقراء» عن ماريلين مونرو، الذي قوبل بانتقادات لاذعة بسبب تعمّقه في الجوانب المظلمة للشخصية، يتجنّب «لاراين» دفع «جولي» نحو التطرف. يبقى الفيلم على مسافة آمنة، ممّا يجعله عملاً خالياً من المخاطرة والإثارة.

أنجلينا جولي من فيلم «ماريا»
أنجلينا جولي من فيلم «ماريا»

مع ذلك، يظهر الفيلم براعة فنية واضحة، بمساهمة من مدير التصوير الكبير إدوارد لاكمان، إلا أن الروح الخاصة بالعمل تظلّ غائبة.

وضع «لاراين» كاميراه في شقّة باريسية، حيث كانت كالاس تقيم في تلك الفترة. نتابع تفاصيل حياتها اليومية، من خلال علاقتها بامرأة ورجل يشاركانها حميميتها. المرأة (ألبا رورفاكر)، تعدّ الطعام لكالاس وتقدّم بعض النصائح حول صوتها بين الحين والآخر. أما الرجل (بيارفرنتشيسكو فافينو)، فيراقب استخدامها للأدوية وينظّم أمور حياتها.

 ستتخذ الأحداث منعطفاً جديداً مع ظهور صحافي شاب يسعى لإجراء مقابلة معها، فيتنقل الفيلم بين فترات زمنية وأماكن مختلفة، مسلطاً الضوء على لحظات من الماضي والحاضر، وصولاً إلى لحظة سقوط كالاس أرضاً في منزلها.

أنجلينا جولي من فيلم «ماريا»
أنجلينا جولي من فيلم «ماريا»

لماذا علينا أن نشاهد فيلماً خيالياً عن شخصية لا تزال صورها في الأرشيف وحضورها في الأذهان؟ سؤال لا بد أن يطرحه المخرج على نفسه قبل مباشرة مشروعه. علماً أنه قد يكون للبعض أسبابه التي لا تتقاطع بالضرورة مع أسبابنا نحن المشاهدين. 

اللافت أن رغم كلّ الجهود التي بذلها الفيلم لإعادة إحياء الواقع، لجأ في الأخير إلى نشر صور من الأرشيف لكالاس، وكأن المخرج شعر أن كلّ ما قدّمه لا يفي الاسطورة كالاس حقّها، وهنا مشكلة الفيلم الأهم.  

اقرأ أيضا: 12 دوراً صنعت أسطورة ألان دولون

شارك هذا المنشور