فاصلة

مقالات

لوكا غوادانينو.. يمكنك تعلّم إنجاز فيلم في أسبوع واحد

Reading Time: 6 minutes

يقول لوكا غوادانينو إنه تربّى في كنف أفلام مثل «لورنس العرب – Lawrence of Arabia» و«سايكو – Psycho» و«القيامة الآن – Apocalypse Now». شاهدها عندما كان بين السادسة والعاشرة. 

لوكا غوادانينو

يتذكّر: «كان والدي يسمح لي بمشاهدة أي شيء أحبّه. آخر فيلم شاهدته وإياه عندما كنت في الثالثة عشرة. أما تجربتي السينمائية، فأعتقد أن الأمر كان يتعلّق بالانجذاب إلى سحر معين يحدث على الشاشة. كان أشبه بإغراق الذات في تعقيدات المونتاج والصراع الذي كان يحدث في داخلك جراء عدم استيعابك كلّ شيء. لطالما عرّضتُ نفسي لأشياء كانت معقّدة. تخيّل، كنت أقرأ كتباً موجّهة لقراء أكبر مني  عمراً».

 ذاع صيت هذا المخرج الإيطالي، عقب فيلمه «نادني باسمك – Call Me by Your Name» الذي عُرض بدايةً في مهرجان برلين 2017. بين «ناتورالية» موريس بيالا وجرأة برناردو برتولوتشي، برزت في هذا الفيلم سينما العواطف المكبوتة التي نادراً ما نراها على شاشات يهيمن عليها العنف. نصّ سينمائي ذروة في الفنّ والجمال والحسيّة والبساطة، تستكشف المشاعر والذات من خلال الآخرين. تخرج منه بإحساس من السعادة والدهشة. «غوادانينو» جمع ببراعة بين التفاصيل المرهفة، والأجواء، والبيئة الريفية البورجوازية التي يعرفها جيداً. 

لوكا غوادانينو

أربعة أفلام يعود أول واحد فيها إلى مطلع القرن، سبقت «نادني باسمك»، أبرزها «رذاذ أعظم- A Bigger Splash» (2015). الحبكة: عندما تسافر نجمة الروك ماريان لين إلى جزيرة بانتليريا مع شريكها بول للراحة، تتعقّد الأمور بوصول هاري، منتج موسيقي كانت على علاقة سابقة معه. تتسبّب المشاعر المتضاربة وعودة الماضي في تفجير هدوء الإجازة. تلعب دور ماريان الممثّلة تيلدا سوينتون التي رافقت مسيرة غوادانينو منذ فيلمه الأول «الأبطال».

 رغم الأهمية النسبية لأفلامه الأولى، فـ«نادني باسمك» الذي صوّره في بلدته على مسافة قريبة من ميلانو، كان نقطة تحوّل في مسيرته. تلته ثلاثة أفلام هي «سوسبيريا – Suspiria» (إعادة إنتاج لفيلم داريو أرجنتو السبعيناتي الشهير)، «عظام وكلّ شيء – Bones and All»، دراما رومنطيقية عن آكلي لحوم البشر.

لوكا غوادانينو

وأخيراً «تشالنجرز – Challengers» الذي لا يزال في الصالات، وهو فيلم يمتد على 13 سنة، يتمحور على مثلّث غرامي بين نجمة من نجوم لعبة التنس وعشيقها السابق وزوجها الحالي. الفيلم هذا كان من المفترض أن يفتتح الدورة الماضية من مهرجان البندقية، لكن المنتجين قرروا سحبه بسبب إضراب الممثّلين وكتّاب السيناريو في هوليوود. لكن «غوادانينو» يعود هذا العام إلى الليدو بعمل جديد بعنوان «كوير» مقتبس من رواية لوليم بوروز، بطولة دانيال كريغ الذي يقدّم فيه «دور عمره» كما قال مدير الموسترا ألبرتو باربيرا، علماً أن الفيلم حظي بموازنة ضخمة وصُوِّر في استوديوهات تشينيتشيتا حيث أعيد إحياء منطقة نيو مكسيكو، مسرح الأحداث.  

لوكا غوادانينو

يصعب إخفاء حقيقة أن «غوادانينو» واحد من أهم صانعي الصور في العالم حالياً، وهو في الثالثة والخمسين، أي أنه لا يزال في ذروة عطائه. عُرضت أعماله في أكبر المهرجانات وفاز بترشيحات وجوائز أهمها «أفضل مخرج» («أسد فضي») في البندقية. لكن متى أصبحت فكرة سرد القصص راسخة في ذهنه؟ هل كان ذلك لأنه أراد الاستفزاز، الشيء الذي يتكرر في أفلامه؟ لكلّ فنّان قصّة، فما هي تفاصيل قصّة «غوادانينو» التي روى فصولاً منها خلال لقاءات عدة، جرى أحدها خلال حضوره مهرجان البحر الأحمر السينمائي في جدة قبل عام ونصف العام؟ 

يجيب: «كلفتُ نفسي بالسينما عندما كنتُ مراهقاً. لكن حلم الإخراج راودني منذ طفولتي الأولى. أتذكّر عندما كانوا يسألونني وأنا في السادسة، ما المهنة التي سأزاولها عندما أكبر. كنت أجيب أنني أريد أن أكون سينمائياً. حسمتُ أمري منذ ذلك الحين، من دون أن أعرف تماماً ماذا يعني أن أكون سينمائياً». 

لكن، هل يفهم ما تعنيه السينما اليوم بعد تسعة أفلام فرضته موهبة من المواهب بحيث لم يكتفِ بالبقاء في حدود ثقافته بل تجاوزها إلى هوليوود؟ يعترف قائلاً: «كلّ فيلم أصنعه هو كما لو كان فيلمي الأول. أعني ذلك بصدق من دون أي ادعاء زائف. كلّ فيلم جديد يفرض عملية تعلّم كاملة حيث تعيد صياغة ما تعتقد أنك تعرفه. لذا بطريقة ما، تلجأ إلى نوع من الخبرة السطحية لصناعة وهم. تتظاهر أمام فريق الفيلم أو الممثّلين أو المموّلين أنك تعلم ما تفعل، لكن في الواقع أنت لا تعلم. 

بل يصح القول انك تكتشف ما تفعله خلال إنجازك الفيلم، لا قبله. نعم، أحياناً تتحوّل هذه اللحظات إلى لحظات نشوة، خاصةً عندما يحدث خلال التصوير ما ينتمي إلى عالم السحر على مستوى الأداء، أو يحصل تفاعل كبير بين الممثّلين. التصوير تجربة رائعة، خصوصاً عندما ترى سخاء الممثّلين وانغماسهم الكلي في عملية إنجاز الفيلم.

ولكن المونتاج هو الذي يعطي الفيلم شكله النهائي. فكرة تصوير فيلم بلقطة واحدة أجدها سخيفة جداً. أعتقد أن أي مشاهد يمكنه أن يتحمّل ساعة وخمسين دقيقة من لقطات طويلة، خاصة إذا كانت تتضمّن شخصاً ما تتعقبّه بالكاميرا. هذه ليست سينما. إنها لقطة طويلة أو شيء أشبه بترك الكاميرا في حال تسجيل متواصل من دون أن تعلم بذلك. بالطبع هناك استثناءات».

في فيلمه الروائي الطويل الأول، «الأبطال – The Protagonists»، تمكّن «غوادانينو» من الحصول على الممثّلة القديرة تيلدا سوينتون ليمتد تعاونهما على أربعة أفلام. ماذا يعني له العمل مع نجمة منذ أول تجربة إخراجية له؟ يجيب: «لا أملك أي شعور بالغرور تجاه هذه الأشياء. لا أهتم. إذا كانت لديك القدرة على جلب فنّان موهوب يمكنه أن يجلب للفيلم شعلته الخاصة، لمَ لا. هذا شيء ممتاز. لا أشعر بالتقزّم جراء ذلك. أن يكون النجم أشهر من المخرج صيتاً، فهذا في النهاية عرف من أعراف الصناعة الهوليوودية. قابلتُ تيلدا في حزيران من عام 1994، وكان برلوسكوني قد أنتُخب للتو رئيساً للوزراء. ذهبتُ إليها وصارحتها بأني أريد العمل معها. كنت شخصاً نحيفاً مجنوناً غير قادر على التحدّث بالإنكليزية. فقالت لي: لا أستطيع التحدّث معك الآن، اتصل بي على رقم الفندق، وأعطتني اسم الفندق الذي كانت فيه. اتصلتُ بها في اليوم التالي، فردّت فعلاً. قابلتها وأصبحنا صديقين وبدأنا بوضع قائمة من الأمنيات، فيها ما كنّا نحب أن نفعله في الحياة، معاً، وكلّ منا على حدة.

حملني هذا إلى التفكير في فيلم تكون هي بطلته، فوافقت عندما عرضتُ عليها ذلك. صداقتنا استمرت بعد ذلك، لأننا كنّا عقدنا رباطاً بدا أنه إلى الأبد. وجدنا أرضاً مشتركة في مجال ما نحبّه وما لا نحبّه. تيلدا ليست مصدراً للإلهام لي. فمصدر الإلهام في رأيي ينطوي على شيء سلبي. هذا يعني أنك موجود لتؤثّر وتلهم فنّانا هو عادةً رجل أكبر سنّاً. أراه موقفاً فيه من القمع للطرفين».

يقول «غوادانينو» إنه أصغر من تيلدا سوينتون سنّاً، ولكنه يرى أنها تبدو أصغر منه، ممّا يجعله يتحدّى نفسه ليكون رفيقاً لها بدلاً من وضعها على المذبح. أما تيموثي شالاميه، الذي أصبح نجماً بعدما مثّل في «نادني باسمك»، فترى ما كان شعوره وهو يشاهد صعوده إلى الشهرة.

 يرد «غوادانينو» بقصّة عن صديقه كلاوديو جويا: «كان ذلك في عام 1994 الرهيب، الذي شهد صعود برلوسكوني إلى الحكم. عامذاك، قابلتُ شخصاً يُدعى كلاوديو أصبح صديقاً لي، وهو ممثّل ناجح جداً، خاصةً في التلفزيون الإيطالي، كان يصغرني بنحو أربع سنوات. درس التمثيل في روما، تعارفنا وبتنا صديقين، وأول فيلم قصير له صوّره معي.

أروي هذا لأقول إن لديّ هذا الميل لرؤية شخص ما واكتشف ما لديه من مميزات من النظرة الأولى. أقول ذلك بتواضع شديد، لا على سبيل التباهي. إنني فعلاً فضولي وأجذب الموهوبين، بل أني مجبر على رؤية تلك المواهب تتألّق. حدث ذلك مرات عدة في حياتي. أفتخر بامتلاكي هذا الحدس الذي يجعلني أشعر بأنني أتخذ قراراً صائباً. وفي الحين نفسه، إني فخور بهؤلاء الأشخاص الذين أصبحوا من هم عليه اليوم بعد عملي معهم. تحديداً تيموثي الذي يتمتّع بذكاء كبير، وكنت أعلم أنه سيصبح نجماً كبيراً عندما بدأنا تصوير الفيلم».

لكن، ما هي لغة السينما؟ ما هو الفيلم الجيد بالنسبة له؟ يرد: «هو شيء بين ما تعرفه وما لا تعرفه. ولهذا أشعر أن النقّاد الذين يحاولون شرح الفيلم ويظهرون لك أنهم يفهمون كلّ شيء عنه ويقومون بفك رموزه ثم يخبرونك إذا كان يستحق المشاهدة أم لا، فهؤلاء لم يفهموا الهدف من السينما.

هناك سوء فهم يحتاج إلى توضيح. تقنياً، يمكن أن تتعلّم كيف تصنع فيلماً خلال أسبوع. يمكن لطفل أن يصبح مخرجاً وأن يتعلمّ ذلك إذا كان منتبهاً للغاية. ثم تأتي الحياة والشعور بالذات اللذان يجعلانك فنّاناً. المونتاج هو على الأرجح الجزء الأهم من عملية إنجاز أي فيلم لأنه عندما تستعد أخيراً لتسليم الفيلم إلى كاتبه الأخير، أي المونتير، أنت عملياً تقوم بإعطاء شكل سينمائي للغة تشبه الأدب غير المُشكَّل القائم على الوصف الفوضوي. أنت تصنع الفيلم فعلياً من خلال وضع كلّ شيء معاً. 

وينطوي هذا العمل من خلال تفادي الإجابة عن الأسئلة غير الضرورية والتكيّف مع المشاكل التي لم تكن تتوقّعها. عليك أن تحاول التأكيد انك ستتغلّب على الكوارث. لذا فإن المونتاج هو الجزء الأهم من العملية بالنسبة لي. إنها اللحظة الأكثر متعةً». 

الكثير من أعمال «غوادانينو» تتعامل مع الحميمية والتقارب بين الممثّلين، فكيف يعمل على إعداد مشاهد كهذه، أكان شيئاً مكثّفاً ودموياً في أفلام رعب مثل «سوسبيريا» و«عظام وكلّ شيء» أم في دراما رومنطيقية كـ«نادني باسمك»؟ 

يجيب: «لا يوجد أسوأ من أن تكون في موقع التصوير، لصنع شيء تصفه بالحميمي، وأن يكون الممثّل منزعجاً وغير سعيد بذلك. على المتعة أن تكون سيدة الموقف. يجب أن تتأكّد من أن الظروف التي تعمل ضمنها وتخلقها، تتولّد في ظلّ مجموعة من الناس الذين يتكاتفون لصناعة شيء بعيداً من التوتر. أمقت التوتر». 

يعترف «غوادانينو»، بين المزح والجدية، أنه يشعر بالقلق من أن يصبح مملاً وأن يصرخ المشاهدون أمام فيلم له: «يا إلهي، هذا لوكا مجدداً». وينهي حديثه بالاعتذار لكونه ينجز أفلاماً كثيرة بلا توقّف. لكن، مهما يكن، فإن الكلمة الفصل تبقى للمُشاهد الذي سيقرر إذا ملّ منه أم لا، بعد معاينة جديدة «كوير» في مهرجان البندقية القادم.  

اقرأ أيضا: روبن ويليامز… الطفل الكبير أضحكنا وأبكانا

شارك هذا المنشور