أمضى ريثي بان معظم حياته يتحدّث عن موضوع واحد ووحيد في أفلامه. يمكن القول بأن وجوده بأكمله تحلّق حول ذلك الموضوع الذي تحوّل هاجساً: الخمير الحمر، تنظيم شيوعي، حكم كمبوديا (أو ما عُرف آنذاك بكمبوتشيا الديموقراطية) بين سنتي 1975 و1979، وهذه الفترة كانت كافية لقتل مليون ونصف مليون مواطن كمبودي على أقل تقدير، اعداماً وتعذيباً وأشغالاً شاقة في المعسكرات. فرض زعيم الحزب بول بوت نظاماً راديكالياً مستوحى من الشيوعية الزراعية فأجبر المجتمع بأكمله على المضي في الهندسة الاجتماعية وعلى العمل داخل بيئات زراعية. والويل لمن عارض أو خرج على الطاعة.
ريثي بان، المولود في فنوم بيم والمقيم منذ سنوات في باريس، كان أحد الذين عانوا ويلات هذا النظام الدموي القاتل. كان صبياً عندما اعتقله الحزب الأوحد وضمّه إلى المعسكرات لإعادة تأهيله. عاش فيها أربع سنوات قبل أن يهرب إلى تايلاند ومنها إلى فرنسا، حيث درس السينما في “الإيديك”، إحدى أهم المدارس التي تعلّم الإخراج في فرنسا. هذه الفترة طبعت وجدان المخرج وضميره، فما استطاع تناول موضوع آخر غير تلك التروما التي تسببّت له بها المجازر التي ارتكبت باسم البحث عن حياة أفضل للبشر. يقول انه من دون هذه الحرب، ما كان أصبح سينمائياً: “إني أشهد لأعيد للموتى ما سرقه الخمير الحمر منهم. أنا ناقلٌ للذاكرة، مدينٌ لأولئك الذين اختفوا”.
هذه المقدّمة أو النبذة لا بد منها لفهم عمله الجديد، “لقاء مع بول بوت”، الذي عُرض قبل أيام في مهرجان كانّ السينمائي السابع والسبعين (14 -25 أيار) ضمن فقرة “كانّ بروميير”. إنه الفيلم الذي يعيد ريثي بان إلى الروائي بعدما كان خصص مجمل نشاطه في العقدين الماضيين إلى الوثائقي، وطبعاً كلها يدور حول تلك الفترة المشؤومة من تاريخ كمبوديا. والمفارقة أن بان قد بدأ حياته بالروائي، قبل أن ينحاز إلى الوثائقي، وكان عرض أول أفلامه، “شعب الأرزّ” في مهرجان كانّ قبل 30 عاماً.
خلال دردشة مع المخرج الفلسطيني إيليا سليمان الذي كان حاضراً في العرض الأول، سألته ما الذي دفع المؤسسة التي يعمل مستشاراً لديها إلى دعم هذا الفيلم، فكان ردّه: “السؤال بالأحرى، كيف من الممكن عدم دعم فيلم لريثي بان وهو واحد من أعظم السينمائيين في التاريخ”. هذا يعطي فكرة عن حجم التقدير الذي يحظى به بان بين زملائه.
“لقاء مع بول بوت” مقتبس من كتاب للصحافية إليزابيث باكر التي كانت بدأت حياتها المهنية مراسلة حربية لـ”واشنطن بوست” في كمبوديا وفيتنام، واختيرت مع صحافي ثانٍ لزيارة “كمبوتشيا الديموقراطية” في العام 1978. هكذا أتيح لها أن تلتقي بول بوت. بعد سنوات نشرت كتاباً عن زيارتها تلك في عنوان “عندما انتهت الحرب”. والفيلم الذي تروي فيه ما شاهدته هو أفلمة لهذا الكتاب، مع العديد من التغييرات التي فرضت نفسها لتتماشى مع رؤية المخرج.
يبدأ الفيلم مع وصول ثلاثة مراسلين فرنسيين (إيرين جاكوب، غريغوار كولان، سيريل غيه) إلى كمبوديا. نحن في العام 1978. تستقبلهم السلطة للقيام بجولة ميدانية تحت مراقبة شديدة تستعرض إنجازات النظام الحاكم، في انتظار إجراء مقابلة مع بول بوت. لا يُخفى على أحد – حتى على المراسلين الثلاثة – أن النظام يريدهم أن يروا فقط جانباً من حياة الكمبوديين مع إخفاء كلّ ما ترغب السلطات في طمسه وإبعاده عن أنظار “الغربيين الذين لا يريدون خيراً لنظام حكم لم يخترعوه”. هذا كله يحدث في ظلّ تهديدات فيتنامية باجتياح البلاد، ممّا يسمح للنظام باعتبار أي شخص معارض متواطئاً مع الفيتناميين أو عميلاً لهم.
المراسلون ليسوا بريئين تماماً، فهم معجبون إلى حد ما بفكرة “شيء مختلف يحدث في بلد أكزوتيكي”، لكنهم لا يعرفون بعد حجم المأساة والتضحية بالأرواح التي يتسبّب بها الحكم. الأشياء ستأخذ منعطفاً خطيراً، عندما ينتفض المصوّر الذي يرافق المراسلين، وذلك بعد أن يشعر بأنه مجرد دمية يحركها النظام، فيما هو يتوق إلى ممارسة عمله كصحافي يشهد للحقيقة. بيد ان هناك سبباً يجعل هؤلاء الثلاثة يؤثرون الانتظار والتريث وهو اللقاء الموعود مع زعيم البلاد، بول بوت، الذي لا يبدو مستعجلاً للقائهم. تمر الأيام، ويحدث ما يحدث، إلى أن تأتي لحظة اللقاء مع الزعيم (يجسّده ريثي بان بنفسه مخفياً وجهه في الظلّ)، فتُزاح الستارة ولا يبقى ما يُخفى خلفها…
الفيلم يستحق المشاهدة بشدة، لكن بعض النقد واجب: إن نزاهة ريثي بان في نقل ما يعرفه وعاشه ليس محل شك. في المقابل، استعانته برواية سيدة أميركية، ثم تحويل شخصياتها إلى فرنسيين، ليحكي فصلاً من تاريخ يحمل ندوبه، محل استغراب كبير، وهذا واضح في الفيلم الذي يشكو من بعض البلادة في تصوير حدث بهذه الفظاعة، رغم أن من يعرف أفلام ريثي بان لا بد أنه لاحظ المعالجة التي تغيب فيها كلّ أنواع استدرار العواطف. مشكلة أخرى لا يمكن صرف النظر عنها، تتعلّق بتوزيع الأدوار: إيرين جاكوب ليست مناسبة للدور، ردود فعلها تموضع الفيلم في نوع من سطحية تمنعه من أن يحلّق عالياً في فضاء السينما. أما محاولة السيناريو مساءلة دور الصحافي باعتباره شاهداً وكيفية نقل الحقيقة في ظروف كهذه، فبقيت خجولة لا تأتي بمردود كبير، خصوصاً أن الفيلم عنوانه “لقاء مع بول بوت”، وكل العيون تتّجه صوب هذا اللقاء الحدث. علّة ثالثة: استخدام مواد بصرية من الأرشيف لضمّها إلى الفيلم. في مشهد، تنظر إحدى الشخصيات في نقطة معينة، والصورة التالية المنظورة إليها هي من الأرشيف. وكون الفيلم ينطلق من لحظة محددة من دون أن يقول ما حدث قبلها أو بعدها، فيتجنّب المخرج ان يعطينا درساً في التاريخ، لكنه يفوّت فرصة صنع فيلم مرجعي عن الخمير الحمر، تأكيداً لفكرة أن من يعيش التجربة ليس بالضرورة أفضل من ينقلها سينمائياً. فالخيال أحياناً هو أشد سطوةً. في انتظار محاولة أخرى، ترضينا وترضي ريثي بان، لا تسعنا إلا العودة إلى “أس21، آلة قتل الخمير الحمر”، الوثائقي الذي كان جعلنا نلتقي بول بوت من خلال جرائمه، بعيداً من شخصه.
اقرأ أيضا: «ليمونوف»: عن الغضب المجاني ضد العالم