على مدار سنوات عانت تونس من ظل الإرهاب الثقيل، وفقدت أسر عديدة أبناءها إما ضحايا لهجماته الدامية، أو لصالحه؛ نتيجة لهروب شباب ومراهقين للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا أو ليبيا.
في فيلمه الروائي الطويل الثاني «الذراري الحُمر» استند المخرج التونسي لطفي عاشور إلى وقائع الإرهاب التي شهدتها تونس في 2015، والمأساة التي عاشتها عائلة الراعي المراهق مبروك السلطاني بعد ذبحه على يد الإرهابيين في جبل المغيلة المحاذي لمنطقة السلطانية في ولاية سيدي بوزيد بتونس. كاشفًا عن حالة الرعب والتمزق التي سيطرت على البلاد خلال هذه الفترة وتأثير هذه الصدمات النفسية المؤلمة على الأجيال الناشئة.
حصد الفيلم عددًا من الجوائز العربية والعالمية، من بعد عرضه العالمي الأول خلال الدورة الأحدث لمهرجان كان السينمائي الدولي، منها جائزة اليُسر الذهبية لأفضل فيلم روائي طويل في الدورة الرابعة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بجدة، وتوج بالتانيت الذهبي لأفضل فيلم روائي طويل وجائزة الجمهور في الدورة الـ35 لمهرجان أيام قرطاج السينمائية في موطنه تونس. وعُرض مؤخرا في ختام ملتقى قمرة السينمائي بالدوحة ضمن برنامج عروض الأفلام المدعومة من مؤسسة الدوحة للأفلام، إذ حاز على منحة دعم الإنتاج من مؤسسة الدوحة في 2018.
هزت حادثة مبروك السلطاني أرجاء تونس ليس فقط لبشاعتها واضطرار ابن عمه الأصغر سنا لحمل الرأس المذبوح من الجبل إلى القرية، ولكن أيضًا لأن قتلته نشروا الرعب بفيديو مصور للواقعة بثوه على شبكة الانترنت بعدها مباشرة. وتناول المخرج التونسي لطفي عاشور في فيلمه “الذراري الحمر” أطراف القصة لرصد وقع هذا العنف والأثر النفسي الذي خلَّفه. يقول عاشور في حواره مع فاصلة: «قصة الفيلم مبنية على أحداث حقيقية مثلت صدمة كبيرة لنا في تونس، فعندما علم الناس بهذه الجريمة البشعة وبدأ الجميع يكتب عنها في السوشيال ميديا كانت جثة مبروك لا تزال على الجبل، ورأسه في منزل العائلة بالقرية، وهو وضع صعب لا يمكن أن يتصوره أحد».
وأكد مخرج «الذراري الحُمر» أن تلك الأحداث شكلت صدمة للتونسيين الذين قضوا فترات طويلة من السلام النسبي: «لم نكن واجهنا مثل هذه الوقائع من قبل، ربما حادثة واحدة أو اثنتين فقط أثناء حكم بن علي، لكنها لم تكن بمثل بشاعة هذه الجريمة، فهي المرة الأولى التي يمس فيها الإرهاب «ولاد صغار» ومدنيين، لم يكن عمر القتيل تعدى 16عامًا وابن عمه الذي حمل رأسه كان عمره 14 عامًا كما ظهر في الفيلم». وأضاف عاشور أن تلك الحادثة لم تصدم أسرة الطفل وأهل بلدته فقط، وغنما شكلت صدمة كبيرة للمجتمع التونسي كله، الذي فزع بشكل أكبر عندما تكررت الواقعة نفسها في 2017 بمقتل خليفة، شقيق مبروك السلطاني في الموقع نفسه وبالطريقة نفسها، رغم وعد الباجي قائد السبسي رئيس الدولة في ذلك الوقت للعائلة بالمساعدة وتوفير الحماية بعد مقتل الابن الأول.

كان الوضع السياسي في تونس خلال عام 2015 مزريا، نتيجة لما يصفه عاشور بـ «تحالف مصالح هدم البلاد»، ما بين إسلاميو حزب النهضة الذين وصلوا الى الحكم، ورجال النظام السابق (نظام بن علي): «مررنا بعشر سنوات سوداء تحت حكم الإسلاميين، استعملوا الإرهاب كأداة في الألعاب السياسية، وكانت لهم علاقات مباشرة ببعض العمليات الإرهابية وبتسفير الشباب التونسي للانضمام إلى داعش» – لا توجد تقارير موثوقة تؤكد ضلوع نظام الحكم في تونس في إلحاق التونسيين بتنظيم الدولة على نحو مباشر- مشيرًا إلى أن الجريمة صارت في ظل هذه الظروف السياسية الصعبة والدولة لم تتحمل مسؤوليتها في حماية المواطنين.

وأكد عاشور أنه لم يكن مهتما في الفيلم بالتحليل السياسي أو البحث عن أسباب وقوع الجريمة، بقدر ما همه التعمق في الأثر النفسي لعنف وقسوة حادث مثل هذا، تم تناقله عبر مواقع التواصل الاجتماعي والضحايا فيه «أولاد صغار»، مضيفًا أنه غيَّب السلطة في الفيلم كما غيَّب الجهاديين، مفسرًا اختياره بـ«سببين؛ أولا لأنه لا توجد معلومة واضحة عن مرتكبي الجريمة، وثانيًا لأن هذا ليس موضوع الفيلم، وإنما موضوعه العنف، والأدوات السيكولوجية التي يلجأ إليها أشرف الناجي من الحادث لمواجهة هذه الصدمة التي تعرض لها».
وأضاف: «أردت التركيز على العنف بكل أنواعه، فنحن هنا بصدد عنف إرهابي ولكن من الممكن أن يشمل أيضا عنف من نوع أخر، فغياب الدولة من وجهة نظري عنف، تهميش بعض الفئات عنف، والعنف الذي يعيشه أطفال فلسطين الأن يتجاوز ما قدمه الفيلم بكثير»، منبها «البعض يبحث عن ركيزة أو حجة للعنف، القضية ليست الجهاديين فقط وإنما هي العنف في حد ذاته، وبكل أشكاله واطرافه، اردت أن افتح أفقا أوسع للتفكير في هذا الأمر، خاصة في أوروبا، لأنهم يبحثون دائمًا عن سبب يرضيهم ويحصرون الأمر في الجهاد والإسلاميين، وكأن العنف لا يأتى إلا من هذا الجانب فقط في حين أن تاريخ أوروبا كله ملئ بالعنف».

قدم الفيلم جانبًا آخر من العنف الواقع على المجتمع واسرة الضحايا وهو «العنف الإعلامي»، والذي يمثل الطريقة التي تناول بها الإعلام هذه الجريمة. يقول عاشور: «الإعلاميون حضروا إلى منزل عائلة السلطاني في اليوم التالي للجريمة وقاموا بتصوير رأسه المفصول عن جسده وعرضها على شاشة التلفاز، حدث ذلك في الواقع وكانت صدمة أخرى عاشها الشعب التونسي»، مضيفا: «لا اعتبر هذا إعلاما أو صحافة لأنه لم يحترم مشاعر هذه العائلة المكلومة، التي قتلت مرتين واعتبر ذلك عنفا أيضا».
قدم عاشور فيلما روائيا، يمثل محاولة في البحث عن وسيلة لتجاوز مشاعر الألم والصدمة العنيفة، من خلال شخصية أشرف ابن عم الشاب المغدور، والذي نجي من الاعتداء ويحاول استيعاب ما حدث له ولصديقه وابن عمه. واستخدم الكاتب أسماء مختلفة للشخصيات والأماكن مراعاة للقانون ولمشاعر الأسرة الحقيقية التي عاشت هذه المأساة، ويقول «لم ارصد الواقعة كنوع من التوثيق وإنما لتتبع تأثيرها. وركزت على المشاعر وما يدور في رأس أشرف، فهو في النهاية فيلم روائي. كما حاولت البحث عن ضوء أمل في سعي أشرف لمستقبل مختلف بالرحيل عن هذا المكان المعزول والسعي خلف العلم».
«الذراري الحمر» فيلم روائي عن البراءة في مواجهة العنف والتهميش، ويفسر عاشور عنوانه بأنه يشير إلى الشجاعة، فيقول «هذه العبارة تستخدم في المنطقة التي وقعت فيها الجريمة وتعنى الشجاعة، الذراري هم الأطفال وفي تونس عندما نقول الرجال الحمر أو النساء الحمر يعني الشجعان، أو الجدعان، وفي الإنجليزية Red Path، يشير إلى طريق الخطر ويعبر عن الذي يجب أن تمر به شخصية أشرف داخليا لمواجهة الصدمة».
اقرأ أيضا: «الذراري الحُمر».. هناك دماء دائمة في الطريق