تحضر العراق هذا العام للمرة الأولى في كان بعد سنوات طوال من الغياب عن المهرجانات الدولية الكبرى، وفي حضورها يظهر أن أرشيف سنوات القمع لا يزال حاضرًا بقوة في قلب المشهد الفني العراقي، مُمليًا ميلاً سينمائيًا لاستعادة القصص المنسية وإعادة فحصها تحت عدسة الكاميرا.
ضمن قسم الكانزان “نصف شهر المخرجين” في مهرجان كان، عُرض الفيلم الأول للمخرج العراقي حسن هادي الطويل، والذي حمل بالعربية اسم “مملكة القصب”، فيما عُنوِن بالإنجليزية باسم “كعكة الرئيس The president’s cake”.
في تجربة رائعة، يأخذنا المخرج حسن هادي إلى زمن لم يُحك عنه كثيرًا في السينما، إذ يبدأ من منطقة مملكة القصب التي يتطلب الوصول إلى بيوتها استخدام السكان لقوارب صغيرة. وهناك نتعرف على الطفلة لميعة التي تعيش مع جدتها المسنة على جزيرة صغيرة من تلك الجزر، تجدف لميعة وجدتها أو حتى لميعة وحدها لتصلا إلى عملهما في الحقول، أو لتصل لميعة إلى مدرستها.

اختار المخرج أن يستدعي أجواء الثمانينات وألوانها في الصورة، لينقل المشاهد إلى جو شاعري مفعم بالحنين لزمن مضى، حنين سنكتشف مع متابعة أحداث الفيلم أنه حنين لذكريات كاذبة أو منقوصة، لكن هذا لا ينتقص من أثر التصوير السينمائي المذهل والصورة المشابهة للكارت بوستال القديم (بطاقة بريدية صغيرة أطرافها ذات دوران). نرى ذلك من خلال القوارب العابرة للنهر والنساء المتشحات بالسواد، كما نراه من خلال لحظة صفاء للميعة وصديقها المقرب سعيد بينما يتبادلان أطراف الحديث عن بغداد البعيدة ومدينة الملاهي الكبيرة بها. يخبرها سعيد أن تلك الملاهي تحتوي أكبر لعبة تنين رآها في حياته، فتتشوق هي لزيارة بغداد.
تتجلى ملامح شخصية لميعة من المشاهد الأولى، طفلة ذات وجه بريء حالم وشخصية قوية عنيدة، محبة لجدتها وتحلم بعيش حياتها في أمان وسلام. على الجانب الآخر يبدو سعيد ذو شخصية خيالها واسع، يرى العالم بشكل مختلف عن واقعه، مفتون بلميعة، وتعيده هي بدورها إلى أرض الواقع كلما شطح بخياله.
يعكر صفو تلك الأجواء ذهابهما إلى المدرسة، فيشاركان في قرعة إجبارية، مفادها اختيار التلاميذ الذين سيقومون بتحضير كعكة لكل الفصل للاحتفال بعيد ميلاد الرئيس صدام حسين، وإن رفض أحدهم أو حتى قال إنه لا يقدر على ذلك ماديًا، فسيكون جزاء ذلك عقاب مرير للطفل وللأسرة كلها. يقع الاختيار على لميعة لصناعة الكعكة وعلى سعيد لإحضار الفواكه. منذ البداية يؤسس هادي لمنطق عالم الفيلم: عليك أن تدفع دائمًا للحصول على أي شيء، حتى وإن كان ذلك الشيء هو النجاة بحياتك.
الفترة التي يحكي عنها فيلم هادي، كان العراق يمر بضائقة مادية كبيرة جراء الحصار التالي على هجوم العراق على الكويت ومحاولة احتلالها الفاشلة في مطلع التسعينيات، ولذا أصبحت مهمة لميعة التي وقع عليها الاختيار لصنع الكعكة، أشبه بالمهمة المستحيلة.
تخبر لميعة جدتها بما جرى في الفصل، فتطلب منها جدتها كتابة مكونات الكعكة، ومع كل مكون تردد ما يعبر عنه ذلك المكون: البيض للثمر (الخصوبة) والسكر لتحلية الحياة. من تلك التفاصيل يخلق المخرج عالمًا شاعريًا سحريًا ربما يشبه عالم أليس في بلاد العجائبـ، فرغم قسوته، فهو عالم مرئي من خلال أعين طفلة صغيرة لم تر حتى مدينة بغداد أو ربما لم تر أي مدينة في حياتها على الإطلاق.
يعزز سحرية ذلك العالم، تصميم كل شيء في الفيلم، فبقدر ما أن الفيلم واقعي؛ إلا أن ألوانه التي تستدعي أجواء عراق التسعينيات تستعير نظرة الأطفال للعالم، فكل شيء كبير ومخيف ومبهر في الوقت ذاته، إضافة إلى المظهر النوستالجي لألوان الفيلم المشابهة لأفلام الثمانينات وأفلام الخام. أضف إلى ذلك تصميم المناظر والأشياء وبينها السيارة التي تذهب بها لميعة وجدتها إلى بغداد فهي سيارة مرسيدس يملكها ساعي البريد المهم، لكنه أيضًا يزينها لعرس لأحد أقاربه.

في بغداد، تحاول جدة لميعة أملًا في إنقاذها أن تمنحها لأسرة غنية، وهو إنقاذ مزدوج من عقاب المدرسة ومن الحياة الرثة التي تعيشها الطفلة مع الجدة. تدرك لميعة بفطنتها الأمر وتهرب هائمة في شوارع بغداد وفي عقلها هدف واحد: إيجاد مكونات الكعكة للبقاء مع جدتها، وينضم إليها سعيد في تلك الرحلة التي تجري في اليوم السابق للاحتفال الكبير بعيد ميلاد الرئيس، فيبدو يومهما كما لو أننا نتابع رحلة أوديسة كبيرة يبحث فيها الطفلان معدومي الخبرة عن مكونات يصعب إيجادها في بلد تم إفقاره تمامًا.
يستمر ذات منطق الأستاذ، وهو منطق السلطة كلها في الظهور، عندما يبحث الطفلان عن أي مكون، فمقابل كل مكون لا بد لهما من القيام بمهمة ما لأخذ ما يطلبونه، أو إعطاء شيء في المقابل، وينجح هادي في نقل إحساس مدى صعوبة المهمة مستخدمًا المدينة ذاتها كمتاهة كبيرة للطفلين.
يُذكرنا الفيلم نوعًا ما بفيلم “الأبدية ويوم Eternity and a day” لثيو أنجيلوبولس. في هذا النوع من الأفلام، يبحث الأطفال عن شيء ظاهري، لكن بحثهم يقودهم إلى شيء أعمق، اكتشاف لحقيقة الحياة وربما نهاية فترة الطفولة بأكملها.
على المستوى البصري، يذكر الفيلم بالعديد من الأفلام الإيرانية أيضًا، وخاصة أعمال عباس كايرستامي، ما يجعل من الفيلم أقرب لقصيدة بصرية لحكاية عذبة ومرة في الوقت ذاته.

إجمالًا، يمكن القول بأن “كعكة الرئيس” هو ليس فقط أفضل فيلم عربي مشارك في مهرجان كان هذا العام، بل وواحد من أفضل الأفلام الموجودة في جميع الأقسام تقريبًا. عمل أول مذهل، يشبه في إحكام صناعته وطريقة سرده أفلام أساتذة سينمائيين كبار، ويحكي قصة عن زمن سمعنا عنه الكثير، لكن لم تتح لنا الفرصة لمشاهدته على الشاشة.
اقرأ أيضا: «القضية 137»… الجريمة وعدم العقاب