فاصلة

مراجعات

«قواعد اللعبة»… ضحكة قَلِقَة تستقبل صعود الفاشية

Reading Time: 7 minutes

تحمل الأفلام العظيمة ميزتين: هي تبدو جديدة وحديثة، بغض النظر عن تاريخ إنتاجها، وهي سابقة دومًا لعصرها. ومن هذه الأفلام: «قواعد اللعبة» (The Rules of the Game ـــ 1939).

ظهر «قواعد اللعبة» مع نضوج ما سمّي «الحداثة» في الفترة الممتدة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. في تلك الحقبة الحاسمة بالنسبة إلى العديد من المخرجين والتيارات والموجات السينمائية، قدم جان رينوار أحد أكثر الأفلام حريةً وحداثةً، فيلم لا يزال يكتشف – إلى اليوم- فروق دقيقة جدًا بين الطبقتين العليا والفقيرة، بين السادة والخدم، من خلال مهزلة مليئة بالسخرية المدمرة، التي تكمن تحت سطحها صورة للحالة الإنسانية.

في بداية «قواعد اللعبة»، تحذرنا الكلمات المكتوبة على الشاشة: «هذه الكوميديا، التي تدور أحداثها عشية الحرب العالمية الثانية، لا تتظاهر بأنها دراسة للأخلاق. الشخصيات خيالية تمامًا». ثم يعرض رينوار كلمات مأخوذة من مسرحية «زواج فيغارو» (1778) للفرنسي بيار بومارشيه: «القلوب الحساسة، القلوب المخلصة، التي تلوم الحب الخفيف، توقفوا عن شكواكم القاسية. هل تغيير الحب جريمة؟ إذا كان الحب له أجنحة، أليس ذلك من أجل التحليق؟».

بناءً على هاتين الافتتاحيتين، يبدو أننا أمام كوميديا عاطفية بدون ادعاءات سوى الترفيه. لكن لماذا إذن هذه الإشارة إلى الحرب العالمية التي كانت على وشك الاندلاع؟ الجواب واضح: تحت ستار الكوميديا الخفيفة، يقدم لنا رينوار صورة قاسية لمجتمع غير أخلاقي ومنافق ومأزوم، يهتم حصريًا بالحفاظ على المظاهر ومكانته في أوروبا المضطربة قبل الحرب.

إذًا، «قواعد اللعبة» دراسة شاملة للحالة الإنسانية، تحفة خالدة متسامية، وصفها فرانسوا تروفو بأنها «عقيدة عشاق السينما». الفيلم خفيف لكنه مشحون بالحزن المدمر، والهواجس، والمشاعر التدميرية، والفوضى الساخرة الخطرة. 

قواعد اللعبة

يبدأ الفيلم فور هبوط أندريه جوريو (رولان توتان) بطائرته بعد رحلة بطولية عبر المحيط. بينما تحثّه الصحافة على الإفصاح عن تفاصيل رحلته، والتعبير عن فرحته أمام ميكروفونات الراديو، يُعرب أندريه عن عبر أثير الإذاعة عن حزنه العميق من أنّ حبيبته كريستين دو لا شيني (نورا غريغور) لم تأت لاستقباله. هنا يحذّره صديقه العزيز أوكتاف (جان رينوار) من موقفه الذي ينمّ عن انعدام مسؤولية. من جهتها، تستعدّ كريستين للخروج مع زوجها ماركي (مارسيل داليو)، وتستمع بفزع إلى كلام أندريه، فتقرّر إطفاء الراديو. بعد استجواب خادمتها ليزيت (بوليت دوبوست) عن شؤون حبها، تذهب كريستين بخوف إلى غرفة زوجها لتجده يستمع أيضًا إلى كلام أندريه. بعدما شعر روبير بوجودها، يطفئ الراديو، كأن شيئًا لم يكن، ويظهر لزوجته كيف تعمل الدمية الميكانيكية التي حصل عليها للتو. «إنها أفضل من الراديو» تبدو كلمات كريستين بمثابة طلب للصفح مع زوجها، وهو ما يردّ عليه روبير بشرح منطقي لموقف أندريه، كأنه يحرّر زوجته من عقدة الذنب.

قواعد اللعبة

بعد هذا المشهد الذي يكشف فيه رينوار قواعد نفاق شخصياته، يخرجها من بيئتها، ويأخذها إلى الريف، حيث يأتي جميع ضيوف الزوجين لقضاء عطلة نهاية الأسبوع. من بين الضيوف، أوكتاف، ومن خلاله أندريه الذي وافق الزوجان على دعوته «لحفظ المظاهر»، خوفًا من تسبّب ما حدث في إضفاء المزيد من الشكوك بين أفراد العائلة والضيوف. ويظهر هذا النفاق تحديدًا في الحديث بين كريستين وأوكتاف، عندما يسألها الأخير «هل ستدعين أندريه؟» فتجيب: «سأدعوه للقدوم، لا أريد أن أكون المرأة التي تدفع البطل العظيم، وأيقونة الجماهير إلى اليأس. إذا حدث وتحطمت طائرته، سيحمّلونني المسؤولية. سيطلقون عليّ تسمية المغرورة عدوّة الشعب، العائق أمام التقدم. سيتحدثون عن الأجنبية. وأنا أكره الاستشهاد».

قواعد اللعبة

بمجرد وصول الجميع إلى المنزل الريفي الكبير، يصبح فيلم رينوار أكثر وضوحًا، وتمتد صورة المجتمع ذي الضمير الأخلاقي المشكوك فيه – ليس بالضبط في ما يتعلق بالخيانة والجنس، فهذا الجانب لا يهمّ رينوار- إلى جميع الشخصيات التي تسكن المنزل، من الزوجين مرورًا بالضيوف، وصولًا إلى الخدم الذين يوضح رينوار موقفهم الأـناني والاستغلالي.

هذا البيت الكبير والمزرعة، يصبح منطقة محايدة، يسمح لنا رينوار من خلالها دراسة شخوصه عن كثب. نرى طقوسهم وأخلاقهم وطريقة تعاملهم مع بعضهم ومع الخدم، وندرك شبكة النفاق التي تحكمهم. وفي المنتصف يوجد أوكتاف، الذي لا ينتمي إلى أي من الطبقتين على وجه التحديد، بل ينتقل بينهما. وبفضل مهاراته في التواصل واتصالاته الاجتماعية، يعمل وسيطًا، وسيدًا للاحتفالات، وربما محرك دمى غير مرئي لما سيحدث. إن قيام رينوار نفسه بدور أوكتاف، ليس من قبيل المصادفة فقط، لقد أخرج الفيلم أمام الكاميرا وخلفها، وهو دور مزدوج يضفي التعقيد والحداثة إلى عمله كمخرج. 

في السابع من يوليو 1939 عُرض الفيلم للمرة الأولى. كان رد فعل الجمهور سلبيًا: صفارات، احتجاجات، صيحات استهجان، حتى أن بعضهم حاول حرق المسرح. المزج بين الأنواع الفيلمية والنقد الحاد للمجتمع، والمبالغة في الشخصيات، والتكرار الواضح، ونقد الأبطال الوطنيين ووجود امرأة نمساوية يهودية في الأدوار الرئيسية، كل هذا جعل المشاهدين يديرون ظهرهم للفيلم بتشجيع من الأحزاب اليمينية، فيما اقتصرت الحفاوة بالفيلم على حفنة من اليسار الراديكالي وبعض النقاد.

أوضح الناقد أندريه بازان فشل الفيلم بقوله: «كقصة حبّ تقليدية، كان الفيلم سينجح لو احترم السيناريو قواعد اللعبة السينمائية. لكن رينوار أراد أن يصنع أسلوبه الخاص في هذه الدراما، فيما مزيج الأنواع هذا كان مربكًا للجمهور». فشل الفيلم، حد أن شركة الإنتاج الذي أسّسها رينوار أفلست، ومما زاد الطين بلةً أنه حُظر من قبل الحكومة الفرنسية التي وصفته بأنه «محبط وغير أخلاقي وذو تأثير غير مرغوب فيه على الشباب». 

بعد مرور أشهر، رُفع الحظر عن الفيلم، قبل أن يُحظّر مجددًا من قبل قوات الاحتلال النازي. كتب رينوار في سيرته الذاتية: «عندما مُنع الفيلم شعرت بالإحباط، إلى درجة أنني قررت إما التخلي عن السينما أو مغادرة فرنسا… لقد كان من حسن حظي أنني تعلمت كيفية رؤية الخداع في شبابي. نقلت ما أعرفه إلى الجمهور، لكن هذا أمر لا يحبه الناس. الحقيقة تجعلهم يشعرون بعدم الارتياح. صوّرته متأثرًا، ومنزعجًا من الحالة الذهنية لجزء من المجتمع الفرنسي، والمجتمع الإنكليزي، والمجتمع العالمي. إنه فيلم عن الحرب، ومع ذلك لا توجد إشارة واحدة إلى الحرب. لم يكن الجمهور يريد عملًا طليعيًا، بل فيلمًا صغيرًا عاديًا. ذهب الناس إلى السينما مع فكرة أنهم سيصرفون انتباههم عن همومهم، ولكنني أغرقتهم في مشاكلهم الخاصة. إن اقتراب الحرب جعل البشرية أكثر حساسيةً. في الفيلم شخصيات لطيفة ودودة، ولكنها مثل مجتمعنا في حالة انحلال. لقد كانوا خاسرين منذ البداية، وقد تعرف الجمهور على هؤلاء الخاسرين. لقول الحقيقة، لقد تعرفوا على أنفسهم. فالأشخاص الذين ينتحرون لا يفعلون ذلك أمام الشهود».

قواعد اللعبة

في عام 1942، دمّرت غارة جوية لقوات الحلفاء المبنى الذي يحتوي على نيغاتيف الفيلم. وبعد مرور أربع سنوات، عُثر على جزء من الفيلم (مدته 85 دقيقة) في الطابق السفلي من المبنى. وفي عام 1956، جُمعت نسخ ما تم العثور عليه في 120 صندوقًا من النفايات، وجرت إعادة مونتاج للفيلم بنسخة تبلغ مدتها مائة دقيقة تقريبًا. ويبدو أن مشهدًا قصيرًا فقط اختفى إلى الأبد. عُرضت النسخة المستعادة للمرة الأولى في «مهرجان البندقية» عام 1959، فاستقبلت بحفاوة، ووصفت بالتحفة السينمائية. وقتها خرج رينوار من الصالة باكيًا، وكان كلود شابرول وآلان رينيه ولوي مال حاضرين، ووصفوا رينوار علنًا بأنه سيدهم.

بعد البندقية، أخذ الفيلم حقه، وبغض النظر عن التصنيف، فإنه لا يزال حتى اليوم درسًا في السينما. انطلاقًا من جذوره المسرحية، كان رينوار يمهّد طريق للسينما الحديثة الأكثر تحررًا، القادرة على السخرية والتنديد بمجتمع قاس. لقد فعل رينوار كل هذا من دون أن يغيب عن باله الإنسان الذي كان دائمًا محور اهتمامه الرئيسي على الرغم من ضعفه وعيوبه. لم يستطع أن يفهمه، لكن حبّه له سمح له بمحاولة مسامحته، لأنه كما ذكر أوكتاف في «قواعد اللعبة»: «الشيء المروع في الحياة هو هذا: كل شخص لديه أسبابه».

The Rules of the Game

مع الأخذ في الاعتبار السياق التاريخي للفيلم، لا يتعيّن على المشاهد أن يكون شديد الإدراك لربط الموقف الأخلاقي لكل شخصية (صدق أندريه، انتهازية أوكتاف، خفة ليزيت، نفاق كريستين، تعالي روبير)، مع المواقف الأيديولوجية المختلفة التي بدأت تظهر في أوروبا في ذلك الزمن، وقتما كانت مهددة بصعود التيارات القومية الفاشية وعلى رأسها الألمانية والإيطالية. دقة هذه اللحظة التاريخية الحاسمة تكون مروعة أكثر إذا أخذنا في الاعتبار الخفّة الظاهرة الذي يستخدمها رينوار من جهة؛ ومن جهة أخرى، معاصرة العمل للأحداث الذي يصفها.

عاشت هذه الطبقة الأرستقراطية في ظل قواعد متساهلة. يمكنك فعل كل شيء وأي شيء، طالما أنّه ليس علنيًا. وكان النفاق والمعايير المزدوجة العملة السائدة بينهم. فقط في الأماكن الأكثر خصوصية، يُسمح بأن تكون صادقًا وتقول الحقيقة وأن تنكشف بعض الأسرار. ولكن في العلن يسود قانون الصمت الذي يخفي الأكاذيب والفضائح والخيانات والكراهية والانحرافات والألم والجرائم والموت. يكذب الناس من باب الحفاظ على آداب الاحترام والأخلاق الرفيعة والكرامة واللياقة، وأيضًا على النظام الاجتماعي. في الفيلم يقول أوكتاف: «هذا هو الوضع في عصرنا. الآن الجميع يكذب. الصيدليات، الحكومات، الإذاعة، السينما، الصحف. كيف يمكننا كأفراد ألا نكذب؟».

رينوار، الذي سئم هذه المهزلة، يريد إزالة الأقنعة، يريد أن يكشفهم أمام أعيننا… يريدنا أن نعرف كيف هم من الداخل عندما لا يكذبون.

The Rules of the Game

في الفيلم، يوضح رينوار طريقة معالجته الحب والخيانة والكذب باختلاف الطبقة الاجتماعية. الطبقة الأكثر ثراءً، تتمثل في مجموعة من الأشخاص يأخذون كافة قضايا حياتهم باستخفاف، حيث يمكن للجميع ممارسة الجنس مع أي شخص ولا يحدث أي شيء على الإطلاق، فهم يؤمنون بالعرض المنافق المسمّى «الليبرالية العاطفية»، وهذا هو تحديدًا الذي يسخر منه رينوار.

من ناحية أخرى، بالنسبة إلى الخدم أو موظفي المطبخ والأمن وما إلى ذلك، فإن مغازلة شركائهم لشخص آخر يؤثر عليهم كثيرًا. نظام العلاقات هذا معقد للغاية، لكن رينوار يتعامل معه بإتقان وبساطة، مما يضمن عدم تشتيت المشاهد. هناك مشاهد تقع فيها أحداث متزامنة في جميع أنحاء عمق الإطار، وكل هذه الأحداث توفّر معلومات حول الوضع الغريب للحبكة. وهنا يأتي دور الدقة: نظرة، لفتة، تواطؤ، تلخص كل ما هو موجود بين شخصية وأخرى. ورينوار يضيف طبقة أخرى للحكي السينمائي: على الرغم من أن الخيانة الموجودة يتم التعامل معها باعتبارها سرًا بين المتورطين، وبالتالي يحاولان إخفاء سرهما الشخصي، إلا أنّ هذا الإخفاء لا فائدة منه. الكذبة لا تعيش إلا في عالم المتورطين فيها، فبقية الشخصيات على دراية بالواقع. ويمكن تلخيص ذلك بأنّ الذي يخدع هو الذي يُخدع. قد يبدو الأمر غريبًا أو صعب الفهم، لكن نكرّر أنّ رينوار يجعل الأمر سهلًا.

لذلك، فإن «قواعد اللعبة» فيلم ممتع للغاية، يحتوي مشاهد مضحكة. فيلم إنساني، مليء بالتقلبات في الحبكة التي تزيد تشابك القصة، ولكنها تنتهي بطريقة جميلة تصل إلى قلب المشاهد، وتوضح أنّه لا يهم إذا كان لدى المرء أموال أكثر من الآخر. في مجال العواطف، تحت الكثير من الأقنعة والمسرح والخداع، نحن جميعًا متساوون. نحن نتفاعل ونشعر ونعيش أنقى جوانب حياتنا بطرق مماثلة.

The Rules of the Game

كما العادة في أفلام رينوار، فإن قصة «قواعد اللعبة» تقريبًا تحدث في مكان واحد: القصر، حيث السادة والخدم، والنساء والرجال، والعشاق والأزواج. عند مشاهدة، الفيلم تشعر بأنه حيّ، كأنك تشاهده في لحظة تصويره. يترك رينوار ممثليه أحرارًا مع كاميرا أكثر حرية. كل شيء يتحرك من الأجساد إلى الدوافع والعواطف، أي أن الفيلم ليس ساكنًا على الإطلاق.

القصر الذي تدور فيه الأحداث فيه سلالم وممرات وستائر ونوافذ، يستفيد رينوار منها كلها، خصوصًا النوافذ، لمضاعفة المساحة وإبراز هندسة العلاقات التي تربط الشخصيات ببعضها. تتحرك كاميرا رينوار داخل هذه المساحات المعقّدة، مفضلة اللقطات الطويلة، والمعقدة، والحركات الدائرية، القادرة على الجمع من خلال الاستخدام المستمر لعمق المجال، والحركات المتعددة للشخصيات في هذا الفضاء. 

في فيلم مستوحى من تقاليد المسرح الفرنسي، استخرج رينوار السخرية الأنيقة، والنغمة التراجيدية لانتقاد الطبقة العليا الراضية عن نفسها التي تقف على حافة الكارثة.

«قواعد اللعبة» مسرحية هزلية، فيها رومانسيات ماكرة وعابرة، قبلات، عراك، ضربات، محاولات هروب، طلقات نار، صرخات، سقوط، اعتذارات، استقالات، وموت. كذبة كان رينوار مسؤولًا عن التأكيد عليها، في عالم كان على وشك الاستسلام لظلام الفاشية.

اقرأ أيضا: «أبيض – أسود» أم «أبيض وأسود»؟

شارك هذا المنشور