فاصلة

مراجعات

«قطار الأطفال».. التاريخ بعدسة الطفولة

Reading Time: 6 minutes

لا يبدو أن فيلم «The Children’s Train- قطار الأطفال» (2024) معنيٌّ بشكل مباشر بكل ما حدث في إيطاليا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؛ من أزمة حادة أودت بها إلى مستويات متردية من الانهيار السياسي والاقتصادي والتفكك الاجتماعي، وظهور للتفاوت الطبقي بين الشمال والجنوب؛ حيث تم قصف البنية التحتية لعدد كبير من المدن، وزادت الديون والتضخم، وسقطت الفاشية وتحول النظام السياسي من الملكية إلى الجمهورية، وما رافق ذلك من كوارث إنسانية بلغت نصف مليون قتيل تقريبًا بالإضافة إلى المشردين والمهجرين، لكنه معنيّ – دون شكّ – بالتجربة التاريخية والإنسانية الموجعة، التي يأخذنا إلى عمقها دون ضجيج أو افتعال.

كل ما فعلته المخرجة كريستينا  كومنسيني، المتميزة بأسلوبها المتمسك بروح الواقعية الإيطالية وبلمسة إنسانية مؤثرة وصادقة، أنها استلهمت ذريعة الروائية فيولا أردوني التي اقتبست روايتها بالعنوان ذاته، وزرعت العدسة السينمائية في عينيّ الطفل أميريغو سبيرانتسا لتعيد كتابة التاريخ غير الرسمي، وغير المرئي -ربما- إلا من وجهة نظر الأطفال، الذين عانوا وجاعوا وأدقعوا وفارقوا أهليهم دون أن يعرفوا سبباً لذلك! لم تكن عملية إسناد الرواية أو السرد إلى الطفل مجرد اختيار فني فحسب، بل شكلت محور الفيلم ولبّه وميزته الفارقة فنيًّا ودلاليًّا، فالحرب العالمية الثانية غير موجودة في الفيلم بتمثيلاتها الوقائعية، لكنها حاضرة بقوة في السرد عبر التداعيات التي خلّفتها في كل صوب وناحية، وهنا تتجلى عبقرية الفنون في التقاطها زوايا معتمة أو مهمشة والنبش فيها عبر وجهة نظر تنتقي وتمرر من المشاعر والأحداث والحكايات ما يتوازى مع طاقتها الإدراكية وقدرتها التأويلية.

ولأن بؤرة السرد متموضعة في وعي أميريغو الطفل، لم يكن الفيلم معنيًّا بالحرب في متنها السياسي أو الاقتصادي أو العسكري، كل ما كان يمكن له إدراكه هو لعبة «الغميضة» ومحاولته العمل لإرضاء والدته الغاضبة دومًا بفعل الفقر وتردّي المعيشة. والدته التي لم تعرف حنانًا في حياتها فلم تستطع أن تمنحه إياه، لكنها أحاطته بالعناية والرعاية وطوت زنارها على بطنها الفارغة، واستغنت عن طبقها الشحيح كي يأكل ابنها أميريغو كفايته من الطعام، مثلها مثل كل النساء الإيطاليات اللاتي قاتلن لينجو أطفالهن من مخالب العوز والجوع وينهضوا في شبابهم القادم ليبنوا إيطاليا بعد نكستها الكبيرة.

في مثل هذه الأعمال السينمائية التي تسند وظيفة الرواية والتبئير إلى شخصية طفل، غالبًا ما تمر شرائط الحياة وأحداثها في صورتها الأولية ومرحلتها الخام، خالية من التعقيد، يستكشفها الطفل ضمن معارفه وإدراكاته التي تتشكل في مرحلته تلك، وبالتالي تنمو شخصيته متأثرة بتلك التجارب التي خاضها، فتتشكل شخصيته وتتفاعل مع محيطها في تنمية الأحداث وتداخل مسارات الخطاب السينمائي، وتبعًا لذلك فقد شاهدنا فيلمًا إنسانيا وعاطفيًا، حسّاسًا ومؤثرًا بعمق.

The Children's Train (2024)
The Children’s Train (2024)

من بين أهم تداعيات الحرب العالمية الثانية اتساع الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين شمال إيطاليا وجنوبها؛ إذ تدهورت البنية التحتية في مدن الجنوب الإيطالي مثل نابولي وصقلية وزادت البطالة وعم الفقر وكثر المهاجرون الجنوبيون إلى الشمال أو إلى خارج البلاد، في حين كانت مدن الشمال الإيطالي أقل تأثرًا بالحرب، معتمدة على ما لديها من مصانع وشركات بالإضافة إلى استفادتها من دعم خطة مارشال الأمريكية، فظل المجتمع هناك في حالة اجتماعية وتعليمية أفضل، وفي هذه الظروف يتقدم الحزب الشيوعي الإيطالي بمبادرة لأغراض الدعاية للحزب، وتفعيلًا لشعاراته بمناصرة الطبقات الفقيرة في المجتمع. تقوم مبادرته على اختيار أطفال العائلات الجنوبية الفقيرة، وإرسالهم إلى عائلات في الشمال تطوعت باستضافتهم لديها لعدة أشهر، ووفرت لهم بيئة كريمة أتاحت لهم السكن المناسب والتعليم وغير ذلك من جوانب الحياة المختلفة تمامًا عن حياة الفقر المدقع التي كانوا يعيشونها مع عائلاتهم الأصلية في الجنوب.

The Children's Train (2024)
The Children’s Train (2024)

ولأن سفر الأطفال من الجنوب إلى الشمال كان يتم عبر القطار، سُميت تلك المبادرة بـ«قطارات السعادة»، وهي مبادرة قوبلت بمواقف متباينة من الأهالي ومن بقية الأحزاب والفئات السياسية والفكرية، بين القبول أو الرفض، وبين الدعم أو التحفظ، فكانت الأمهات يترددن كثيرًا في إرسال أولادهن، خوفًا مما أشيع حينها من أن الشيوعيين سيرسلونهم إلى موسكو، أو أنهم يأكلون الأطفال في الشمال! ولكن أم أميريغو تحسم أمرها مع بقية الأمهات وترسل ابنها في قطار الأطفال إلى الشمال.

قطار الأطفال
The Children’s Train (2024)

في 18 مارس 1994 قبل صعوده إلى المسرح الممتلئ بالجمهور، يتلقى الموسيقار الإيطالي الشهير أميريغو بينفينوتي اتصالًا هاتفيًا من أمّه الشمالية التي تبلغه أن أمه ماتت! بعد أن أنهى الاتصال تسأله مساعدته إن كان يود إلغاء الحفل لكنه يجيب بالنفي وبأن الأمر لا يستحق. يدخل المسرح ويقود فرقته مفتتحًا العزف ليتداخل معه صوت أمه تغني أغنية يذكرها جيدًا، تأخذه وتأخذنا معه في عودة بالزمن إلى نابولي عام 1944 تحت الحرب والقصف والدمار، حين يهرب الجميع باستثاء أمه أنطونيتا (سيرينا روسي) التي استمرت تبحث عنه بفزع لم يكن يدركه الطفل المختبئ بشقاوته المعتادة، حتى تهاوت الجدران بفعل القصف وكادت أن تأتي عليه، ليقفز بعد زوال الخطر إلى حضن أمه التي طوقته وانطلقت تركض.

هكذا يبدأ الفيلم، في حركة استعادة زمنية لآثار الحرب والدمار ومبادرة «قطارات السعادة» التي كان يراها البعض مؤامرة شيوعية! ولحياة أميريغو وأمه الوحيدة العزلاء أمام ويلات الحياة، بعد رحيل زوجها التي تقول عنه، إنه ذهب إلى أمريكا! يصور الفيلم جوانب مؤلمة من معاناة الأسر الجنوبية، كما يصور الحالة الانتقالية التي طرأت عليهم وعلى أطفالهم الذين رحلوا إلى الشمال وعائلاته، والفروقات الجوهرية في مستوى المعيشة والبيئة والتعليم والعلاقات الأسرية، والعنصرية والتنمر الذي مارسه أطفال الشمال تجاه أميريغو وكافة أبناء الجنوب، وهنا نبدأ نلمس -ونحن نتتبع عدسة الطفل البؤرية- أسئلة الهوية والوجود تتمدد أمام أميريغو وبقية الأطفال، الذين تفاوتت ردود أفعالهم تجاه ذلك كله.

قطار الأطفال
The Children’s Train (2024)

كان من نصيب أميريغو أن يعيش مع سيدة شيوعية عزباء مثقفة وشبه مكتئبة بعد أن قُتل حبيبها في الحرب، ليس لديها خبرة بالتعامل مع الأطفال، وتعيش إلى جوار أخيها وعائلته. لكنها مع الوقت تقبلت أميريغو الذي بدا أنه أكثر نضجًا من عمره، وبخاصة حين اندمج مع أخيها النجار عاشق الموسيقى، الذي عَلَم أميريغو العزف على الكمان وصنع له واحدًا خاصًا به، محفورا عليه اسمه. تنتهي فترة النعيم في حضن أمه الشمالية، ليعود إلى أمه الجنوبية في نابولي. لم يحضنها أو يقبّلها، غضبت، وأيقنت أن أخلاق ابنها قد فسدت في الشمال، وحين رأت الكمان أخذته منه وخبأته تحت السرير، قررت أن تصادره منه لأنه للأغنياء فقط! وأمرته أن يذهب للورشة ليعمل ويكسب رزقه. كانت أمه تبدو قاسية، مع أن حبها ورعايتها وحنانها عليه لم يكن خافيًا، لكن الفقر وقلة الحيلة يمنعانها أن تلين، لتنجو وينجو طفلها وبلدها! انفجرت باكيةً بحرقة بعد أن خرج أميريغو من عندها محبطًا!  يعلم أميريغو من أحد أصدقائه أن أمهاتهم الشماليات يرسلن لهم الرسائل والطعام والملابس، لكنه لم يتلقّ شيئًا من أمه الشمالية وظن أنها قد نسيته، حين أكدت له أمه أنها كانت تسأل مسؤولة البريد، التي تجيبها بأنه لم يصل شيئًا بالبريد إلى أميريغو، الذي يقرر ذات يوم أن يذهب بنفسه إلى البريد ليجد كومة رسائل من أمه الشمالية، وطعامًا كثيرًا أخبرته مسؤولة البريد أنها قد وزعته على المحتاجين حين لم يأت  هو ليأخذه، حسب وعود أمه لها!

قطار الأطفال
The Children’s Train (2024)

يجن جنون الطفل أميريغو عندما يبحث عن الكمان ولم يجده. صرخ بأمه يسألها، أخبرته أنها رهنته لتشتري له حذاءً جديدًا وطعامًا، واحتفظت بالباقي للأزمات، وتطلب منه أن يصحو من هذا الحلم الذي هو فيه، وأن حياته هنا في نابولي، وعليه أن يعمل كي يعاونها. يصرخ أميريغو في وجهها بأنها كاذبة، ويلقي رسائل أمه الشمالية في وجهها، لتقبله بصفعة على وجهه، وضعت بداخله حدًا لكل ما يمر به من تناقض وحيرة وروح مبعثرة وفكر شارد، عندها يقرر أن حياته مع هذه الأم النابولية ليست هي الحياة التي يتمناها، وأن حياته وهويته ومستقبله وموسيقاه هناك.. عند أمه الشمالية التي يستقل القطار عائدًا إليها ليقضي معها حياته ويبني مستقبله الموسيقي، حتى أبلغته باتصالها في 18 مارس 1994 أن أمه الجنوبية قد توفت! ليصعد ويواصل حفلته الموسيقية المزدحمة بالمعجبين والجماهير، ثم يتجه إلى بيت أمه في نابولي، ويتذكر، ويرى ويسمع أمه، ويتحسس كل التفاصيل. يجثو على ركبتيه تحت السرير الذي خبّأت أمه الكمان تحته، ليجد الكمان كما هو، محفورًا اسمه عليه، وفيه ورقة الرهن المسدد مكتوبًا عليها: «متجر رهونات نابولي، أنطونيتا سبيرانتسا، كمان ب30 ليرة – تمت إعادة دفع ثمنه».

قطار الأطفال
The Children’s Train (2024)

في استمرار للعبة الزمن السرديّ في الفيلم، يتوازى مشهد عودة الموسيقار أميريغو إلى منزل أمه الجنوبية في نابولي وعثوره على الكمان، مع مشهد هروب الطفل أميريغو إلى بيت أمه الشمالية، التي تفرح به وتعانقه، ويفاجئنا جميعًا صوت أمه الجنوبية قادمًا من اللامكان، يخاطب أميريغو، طفلها الأغلى، يصل صوتها الرسائلي وهو في حضن أمه الشمالية: «بعد هروبكَ من البيت، تواصلت معي تلك المرأة الشمالية، قلتُ لها إنه يمكنك أن تبقى معها إن كانت تلك رغبتها، وإلّا فيجب عليك العودة إلى المنزل حالًا. يا أميريغو، عندما هربتَ.. كان بإمكاني السفر وإعادتك إلى البيت، لكنني لم أفعل، أحيانًا من يتركونك، يحبّونك أكثر من الذين يُبقونك معهم»! يتلو هذا المشهد، مشهد الختام، بين أنطونيتا الأم الأصلية، وطفلها أميريغو في حضنها، وهي تغني له بصوتها العذب ذات الأغنية التي سكنته ولم تفارقه. تلك الأغنية التي تداخلت مع عزفه في بداية الفيلم: «عيناك بجمالهما بهجة، لمعانهما يفوق بريق نجمة، سوادهما أشد من الظلمة، كأنهما تنهيدة تتبعها تنهيدة، التنهيدة منهما حارقة، بنارٍ كلها رقة، ما إن تدخل نارُها قلبًا».

الفيلم إهداء إلى الأطفال والأمهات في كل الحروب، الأطفال الذين تشوهت وتخدشت براءتهم، وانشطرت هوياتهم وتبعثرت انتماءاتهم، بين ثنائيات لم تكن لتُفرض عليهم لولا ويلات الحروب والعسكر وطغيان البشر. والأمهات اللواتي بذلن حياتهن في سبيل نجاة الأجيال الجديدة، التي يعوّل عليها أن تبني وتستعيد الأوطان وتعمرها بالسلام والتعايش والثقافة والفنون.

اقرأ أيضا: لوميير السينما… السينما اختراع بلا مستقبل

شارك هذا المنشور