فاصلة

مقالات

فيليب سيمور هوفمان… نجم لم يطفئ الموت وهجه

Reading Time: 5 minutes

تحل اليوم، الثاني من فبراير، الذكرى الحادية عشرة للرحيل المفاجئ للمثل القدير فيليب سيمور هوفمان، الذي رحل تاركًا إرثًا سينمائيًا ثريًا، وجرحًا عميقًا في قلب السينما الأمريكية وجيله من الفنانين، الممثلون منهم والكتاب والمخرجون. 

بزغ نجم فيليب سيمور هوفمان في بداية التسعينيات، وبعد وقت قصير لفتت موهبته أنظار المخرجين ومخرجي اختيار الممثلين ليمنحوه أدوارًا ثانوية في أفلام احتفى بها النقاد وكان أداؤه فيها من العناصر التي لفتت أنظار النقاد. لكن نقلته التي جعلته يحظى بالتفات حقيقي كانت بداية تعاونه مع صديقه المخرج والكاتب بول توماس أندرسن بداية من فيلم أندرسن الأول عن عالم المقامرة والمهووسين به، فيلم “ثمانية مكتملة Hard Eight”، ظهر هوفمان في دور صغير بلا اسم ولكنه دور لافت وسط كوكبة من أفضل الممثلين وأكثرهم موهبة، أخرج بول توماس أندرسن بعد هذا الفيلم أفلامًا عديدة لم يغب فيليب سيمور هوفمان عنها وصولاً لدرتهما المشتركة المعلم The Master”. 

لكن قبل أن نقفز إلى تلك المرحلة المتأخرة من مسيرة هوفمان الفنية، لنعد للتسعينات ونتذكر أدواره اللافتة في التسعينيات وإن كانت صغيرة، ولا يجب أن يفوتنا أن نذكر لتلك المرحلة دوره الكوميدي الرائع في فيلم الأخوين كوين “ليبوسكي الكبير The Big Lebowski”، لكن التسعينات بالنسبة لهوفمان لم تكن سوى البداية.

Hard Eight (1996)
Hard Eight (1996)

الألفية الجديدة شهدت إثبات موقعه المهم وسط الأكثر موهبة، وإن استمر في بدايتها في أدوار ثانوية لكنها أدوار فاعلة في سير أحداث ما شارك فيه من أفلام، افتتحها بواحد من أفضل أدواره في فيلم “شهير بالكاد Almost Famous”، الذي لعب فيه دور الناقد الموسيقي ليستر بانغز، الذي يطور علاقة أخوية مع فتى يبلغ 15عامًا يحتاج إلى توجيه في كتابة مقالة عن فرقة روك صاعدة. هناك مفارقة في أن أحد أنجح أدوار هوفمان وأكثرها شهرة هو دور ناقد، المهنة الوحيدة التي لم يرد أن يمتهنها. دور ليستر بانغز لم يكن أخًا أكبر لـ “ويليام ميلر” فقط، بل كان أخًا أكبر لجميع المشاهدين. في لحظات تكثف الفوضى وتراكم المشاكل، كان صوت ليستر يأتي عبر سماعة الهاتف مطمئنًا ومرشدًا، في دور كانت أغلب مشاهد هوفمان عبارة عن أداء فردي في المشهد وهو ممسك لسماعة الهاتف.

Almost Famous (2000)
Almost Famous (2000)

بعد هذا الدور تألق طوال العقد الأول من الألفية مشاركًا في أفلام درامية رائعة، وتوج مسيرته في عام 2005 حينما حصل على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل رئيسي عن دور البطولة في فيلم “كابوتي Capote” الذي جسد فيه شخصية الروائي الأمريكي المثير للجدل ترومان كابوتي. واستمر هوفمان في مسيرته مراوحًا بين الأدوار الثانوية والرئيسية التي يؤدي كلاها بالبراعة والإخلاص والموهبة اللافتة نفسها، فتصدر مشاهد البطولة مرتين في فيلمي “شك Doubt” و”سينكديكي نيويورك Synecdoche, New York”، ثم استغرق سنة كاملة مستمتعًا بأدوار في أفلام كوميدية مثل “راديو القراصنة Pirate Radio“.

المرة الأولى التي أدركت فيها أهمية هوفمان وحجمه كممثل كانت في فيلم “شك Doubt”، الذي شاركه فيه البطولة ممثلتان مشهود لهما بالموهبة الاستثنائية هما ميريل ستريب وايمي آدمز. يتناول الفيلم قضية الانتهاك الجنسي للأطفال في بعض الكنائس الكاثوليكية، من خلال اشتباه في تحرش قس بأحد الأطفال والشك المصاحب لهذه الحادثة. هوفمان كان يؤدي دور القس، ولا أبالغ إطلاقًا أن نجاح ذلك الفيلم كان يعتمد اعتمادًا مباشرًا على أداء هوفمان، لأن الفيلم كان يتمحور حول الشك المحيط بهذا القس وتصرفاته، ولم يعطِ الفيلم أي إجابة واضحة بخصوص براءة القس من عدمها بخصوص تهمة التحرش.

Doubt (2008)
Doubt (2008)

كان على الفيلم أن يحافظ على هذا الغموض طوال الوقت، وارتبط ذلك ارتباطًا مباشرًا بأداء هوفمان، فهو في كل مشهد قادر على أن يسحرك بشخصيته ويجعلك تثق فيه ثقة كاملة، وفي نفس الوقت يبعث فيك شعورًا مريبًا بأن كل هذه الطيبة يكمن خلفها كابوس موحش. فهو يتقمص الدور الأبوي لهؤلاء الفتية الصغار حينما يشرح لهم كيفية تسديد الرمية الحرة في كرة السلة، ومن ثم يبدو كشيطان وهو يطلب منهم تنظيف أظافرهم، لأن النبرة التي تحدث معهم فيها تحولت فجأة إلى نبرة مبطنة بالتهديد.

حينما أفكر في مقدار الخسارة الفادحة المتمثلة في وفاته، أعتقد أن التنوع الرهيب في مسيرته هو السبب، هوفمان لم يكن متنوعًا من ناحية اختيار الأفلام فحسب، بل كان متنوعًا في اختيار حجم أدواره، فهو يمتلك التواضع الكافي ليبتعد عن بقعة الضوء مختفيًا في دور ثانوي، ويملك الثقة الكافية أن يتصدر المشهد مرة أخرى وبكل سهولة. هذا لا يعني إطلاقًا أن هذه الأدوار الثانوية كانت منسية، على العكس تمامًا، إنه يمتلك القدرة على خطف الأضواء من خلال هذه الأدوار الثانوية من زملائه الممثلين بكل اقتدار.

أحد أشهر الأمثلة هو دوره الرائع في فيلم “حرب تشارلي ويلسون Charlie Wilson’s War“، فحينما يذكر اسم هذا الفيلم نحن لا نفكر بالضرورة بأن الفيلم من بطولة توم هانكس وجوليا روبرتس، لا نذكر اسم المخرج أو الكاتب، نحن نذكر أداء فيليب سيمور هوفمان فقط، نذكر الكاريزما الصارخة التي اقتحم فيها ذلك الفيلم، والتي بسبب منها تغيرت نبرة الفيلم بشكل كامل، ليس لشيء إلا لأدائه فقط. بالنسبة لفيلم مليء بالعيوب الإخراجية وعيوب المونتاج المتمثلة في التغيير المتكرر والعشوائي لزوايا التصوير، وعلى الرغم من ذلك فإن هوفمان استطاع بحضوره القوي أن يطغى على هذه العيوب ويجعل أداءه أكثر ما يتذكره المشاهدون من الفيلم.

مثال آخر على قدرته على تقديم أدوار ثانوية خالد هو دوره في فيلم “ماجنوليا Magnolia” للمخرج بول توماس اندرسون، وكيف استطاع هوفمان تقديم واحد من أفضل مشاهد الفيلم وأكثرها مأساوية بدون أي ممثل معه في المشهد، كل ما تطلبه الأمر هو نص، سماعة هاتف، وفيليب سيمور هوفمان.

دوره الصغير في فيلم Scent of a Woman كان السبب الرئيسي لبداية الشراكة بينه وبين بول توماس أندرسن، حيث تحدث المخرج عن ذلك الدور ويقول أنه وقع في حب هوفمان وأدرك أنهما مناسبان تمامًا للعمل سويًا. وحتى ندرك حجم موهبة هوفمان ومقدار التأثير الذي يملكه، فجميع الأفلام التي حصل فيها تعاون بينهما، كان اندرسن يكتب أدوار هوفمان خصيصًا له، أي أنه كان مقتنعًا تمامًا أن بدون هوفمان فالدور لا وجود له على الإطلاق.

التعاون الأخير الذي جمع بينهما كان في فيلم “المعلم The Master”، تحدث خواكين فينيكس الذي شاركه بطولة الفيلم عن أحد المشاهد التي تطلبت من هوفمان أن يكون غاضبًا، يقول فينيكس إنه في تلك اللحظة حاول أن يتجنب هوفمان وألّا تلتقي نظراتهما، لأنه كان خائفًا منه، فقد كان كالبركان.

الشخصية والحضور التي يستدعيها هوفمان إلى الشاشة الكبيرة هي أمر فريد، وقدرته على تأدية أدوار متناقضة ومتضاربة مسألة تدعو للتوقف امامها طويلًا، فنحن نعيش في عصر تمت قولبة جميع الممثلين فيه، ويكفي أن تنظر إلى قائمة تضم أشهر الممثلين حاليًا وسنجد أنماطًا يتكرر في اختيار الأدوار. وهذا ليس خطأ الممثلين أو انتقاصًا من جودة آدائهم، لكن هي حقيقة أن من يكتب هذه الأفلام ويخرجها لم يستطع تخيل الممثلين في أدوار مختلفة وجديدة.

في عصر منصات البث وتناقص إصدار الأفلام الموجهة إلى شباك التذاكر، لا نستطيع إنكار أن الصناعة أصبحت تقع تحت وطأة قالب رأسمالي يهدف إلى تحقيق الأرباح ويبتعد عن المعاني الحقيقية للفن التي تكمن في الإقبال على المغامرة وتحدي الأفكار الموجودة مسبقًا، قالب يعرف ما هي الأفلام التي سوف تحقق مشاهدات عالية على نتفليكس، وماهي المواضيع التي سوف تناقشها وماهي المنتجات التي سوف تُدرج في المشاهد بغرض الإعلان لتمويل الفيلم. في ظل هذه الصناعة الممنهجة والمقولبة، لا يسعنا سوى تذكر مدى ثورية فيليب سيمور هوفمان في اختياره للأدوار وتأديتها. فهو ممثل تحدى الثبات، قادر على تجسيد الخير والطيبة والخجل والخضوع في دور ما، ومن ثم تجسيد الشر والغضب بشكل مهيب كما لم يتم تجسيده من قبل، قادر على تأدية دور الضحية ومرتكب الجريمة، رجل الدين وصاحب المعصية، قادر على تأدية أكثر الأدوار سوداوية وكآبة، وأخفها ظلًا.

 لم يكن هوفمان بطل شباك تذاكر، ولم يكن الممثل الذي يحصل على دور البطولة في جميع أفلامه، لكنه كان قادرًا على العمل مع كل أنواع المخرجين، ومجابهة أكثر الممثلين موهبة. يقبع في قمة تصنيف الـ Character Actors كرمز ملهم استمر زملاؤه بالحديث عنه وعن معاناته في صناعة الفن حتى بعد رحيله. 

اقرأ أيضا: فيليب سيمور هوفمان… النجم الذي لم يَكبُر

شارك هذا المنشور

أضف تعليق