إلى أي مدى يمكن أن ترصد السينما عملية الاحتضار؟ فالأمر لا يتعلق بالجلوس على أحد أَسِرَّة العناية المركزة في عزلة صاخبة بأضواء «النيون» وصفارات الأجهزة الطبية، فالاحتضار لا يرتبط بنمط شكلي محدد أو ظروف صحية معينة، فربما تكون في ريعان شبابك ولكنك تحتضر داخليا.
وبالنسبة للمخرج الألماني ماتياس جلاسنر، الاحتضار ليس ضروريا أن يرتبط بالموت حتى لو كان رفيق الموت الأبدي، كونه ــ في الفيلم ــ ليس فرديا، بل أكثر شمولية حينما يرتبط الحكي بعائلة كاملة ونُسق سردي غير خطّي يشبه الصراع الأخير لمريض يلفظ أنفاسه الأخيرة.
يفتتح المخرج فيلمه «احتضار- Dying»، بمشهد قاسٍ، ولكنه يصدره للمشاهد بطريقة شديدة العادية، يجرده من قسوته ليتلاشى فخ الابتذال أو الإغراق في المعاناة، من مصلحة المخرج أن يبقى المشاهد على مسافة من الشخصيات، لأنها ليست شخصية أو اثنين بل أربعة من عائلة واحدة و أصدقائهم وحياتهم الخاصة بتعقيداتها الاجتماعية والنفسية ومشاكلها الوجودية؛ فيستهل سرديته من حيث بدأ كل شيء، ويرصد عجوزان على شفا الموت في وضع صحي قاسي.
ليزي (كورينا هارفوش) جالسة على الأرض وعلى ملابسها بقع تغوط، فيما يهذي زوجها جيرد (هانز اوفه باور) وهو يدور في أنحاء المنزل، ويمر بجانبها دون حتى أن يلاحظ تواجدها، نستكشف بعد ذلك أن كلاهما مريض وجارتهما تعتني بهما حين تسنح لها الفرصة، ما يثير تساؤل حقيقي حول العائلة والأبناء؛ سرعان ما يمنحنا المخرج إجابة سريعة حين تتصل العجوز بابنها توم (لارس إيدينجر) لكي تخبره بحالتهما الصحية وخطورة حالة والده ولكنه يؤجل زيارته كالعادة.
ينهي المخرج الفصل الأول ويبدأ في إزاحة القصة إلى ناحية الأبناء هذه المرة بطريقة تدريجية، في فصل ثاني بعنوان «عن الولادة» ننفتح خلاله أكثر على حياة توم مايسترو الأوركيسترا والمؤلف الموسيقى، ونبدأ بتكوين فكرة عن علاقة الابن بوالديه، خصوصا بعد موت والده، وحالة المكاشفة التي تورطت فيها الأم بطريقة عفوية، لتبدأ عملية إزاحة أخرى نحو شخصية الابنة، طبيبة الأسنان إيلين (ليليث ستانغينبيرغ)، ومدى تعاطيها مع العائلة واشتباكها مع الحياة، والتي ندرك بعدها من خلال الحكي أن علاقتها بالكحول أعقد وأكثر قوة من علاقتها بعائلتها أو البشر حولها، ومن هنا تبدأ الحكاية بالتشعب، فصل تلو الآخر، كل فصل تقريبا يرصد أحد أفراد العائلة وعلاقته الاجتماعية و إحباطاته النفسية.
ينسج جلاسنر عالم ثقيل الوطئة، مرتبك وصادم في سردية تتجاوز الثلاث ساعات، حول أشخاص يتصارعون مع فنائهم بشكل حرفي، كُلٌّ بطريقته الخاصة ورؤيته للعالم، والحقيقة أن اختيارات المخرج الفنية أخذت الحكاية إلى مساحات جديدة وثرية، فالقصص التي تدور بشكل موازٍ تقريبا بالإضافة إلى عدد الدقائق الكبير لكل شخصية على الشاشة إلى جانب فوضوية السرد الغير خطي؛ خلقت عالم متفرد واستثنائي من حيث المنظور الشخصي والطبيعة الإنسانية الأكثر شمولية للفكرة.
فنحن في حيواتنا الشخصية نتتبع الموت والاحتضار بطريقة شديدة الحساسية لأنهما يهددان الطبيعة الآمنة لوجودنا كمجتمعات، بيد أن منظور المخرج في تناوله للفكرة يحمل طبيعة فردانية ما بعد حداثية تجرد الشيء من قيمته الاجتماعية، تفرغه ثم تحكم عليه، بحيث لا يميل إلى رمسنة ــ رومانسية ــ الموت ولكنه لا يجرده من فكرة كونه مخلّص، بل ربما يؤصّلها أكثر، غير أنه يروم إلى مساحة ملتبسة أكثر، وهي فكرة التعايش مع الموت نفسه كقطعة مُقدّرة لا مفر منها، وبدلا من تجاوز المناطق الأكثر سوداوية بما تمنحه من تشوه للرؤية الإنسانية لقيمة الوجود، يتطرق لها ويستهدفها بمنهجية لا تأمل في معالجتها، بل رصدها في مجالاتها وأطُرها الفعلية، ويتحدى المشاهدين للنظر في أسئلة ربما تكون صادمة للبعض.
والحقيقة أنه لا يتعاطى مع الموت كنِد أو شر، بل يحاول الاشتباك معه في إطار «العادي»؛ ما يتضاد بشكل كامل مع منظور المجتمعات تجاه الموت في ثقافة سائدة تنكر الموت في الأساس أو تتعاطى معه بشكل هامشي؛ بما يحمله من ثقل غير محبب للنفس.
إن تصوير جلاسنر للبطل/الأبطال يدعو الجمهور إلى التفكير في حياتهم الخاصة، فالفيلم ذا طبيعة عالمية يعمل على تعزيز العمق الموضوعي للموت، ووتيرة الفيلم البطيئة، تمنح الجمهور الفرصة للانخراط بشكل كامل في الصراعات الداخلية للبطل، وليس الموت فقط ما يتعاطى معه جلانسر بشكل مركزي، بل يختبر العلاقات الأسرية المقدسة سواء داخل إطار الموت أو خارجها، ينزع عنها الصبغة الرومانسية للحب غير المشروط.
وعلى الناحية الأخرى يؤسس لعلاقة صداقة مختلفة، يسميها الشراكة partner، ذلك المصطلح الذي يعرف الأشياء بطريقة مختلفة تماما، فالشراكة بشكل عام ذا طبيعة براغماتية، أي تروم إلى مصلحة الشخص، وتعمد المخرج صك ذلك المصطلح «الشراكة»، أو ما يسمي به توم صديقه المؤلف الموسيقى برنارد (روبرت جويسديك)، تأخذ العلاقة إلى اتجاه آخر، فبرنارد هو الشخص ــ باستعارة روبيرتو باجيو ــ الذي مات واقفاً قبل أن يأخذ حياته بإرادته، فقد ودع حياته بشكل مطلق عندما فشل افتتاح عرض مقطوعته الموسيقية التي يؤمن بها، كل ما لحق ذلك كان مجرد قضاء وقت، لذلك عندما طلب برنارد من توم أن يساعده في الانتحار.
شعر برنارد بمسؤوليته تجاه شريكه، الذي يعاني ويتعذب في حياة انتهي من وجوده فيها منذ وقت طويل، وأظن أن اسم مقطوعته «الموت» هو نبوءة كاشفة لمنظور برنارد عن الحياة، بالإضافة أن خط برنارد هو نقد واضح للوسط الفني، كيفية تعاملهم مع الفنان ومشاريعه الفنية، وارتكاز ذلك الخط حول الموت جعله كاشفا لنفاق المجتمع الفني، فالفنان وجوده يبدأ بعد موته، خاصة لو كان ذلك الموت بطريقة درامية تراجيدية، أما قبل تدخل الموت؛ يبقى الفنان نكرة، يحارب من أجل التواجد والظهور.
لذا فالموت يحمل خصوصية بالنسبة للفنان مختلفة قليلا عن جميع الشخصيات الأخرى، الجدير بالذكر أن ثقل وطأة النص وكثافته لا يقفون حائلا أمام المشاهد ليتمتع بتجربة مؤلمة ولكنها كاشفة، وذلك بفضل الحوار الذكي الذي يتناوب بين القسوة والخفة.
اقرأ أيضا: «داخل غلاف الشرنقة الصفراء»… استعادة زمن الأساتذة