فاصلة

مراجعات

أحلام العصر، أو الثقة في مغامرة محفوفة بالمخاطر

Reading Time: 4 minutes

أول ما يستوقف كل متلقي في فيلم “أحلام العصر” هي المدة الزمنية التي تبلغ الـ 190 دقيقة، والتي يكسر بها الأخوين قدس مبكرًا الأنماط المعتادة في وقتٍ غلب على الأفلام السعودية الطويلة مدة تتراوح بين السبعين دقيقة إلى التسعين، مع تجاوز بعضها الحاجز المئوي، ومحاولة آخرون مواءمة صفحات نصوصهم مع المواصفات الزمنية للأفلام الطويلة.

 حيث يوحي ذلك إلى أننا أمام موعدًا استثنائيًا في نواحيه القصصية أو تجربة مثقّلة في جوانبها السينمائية. والتي تثير لدينا فضولًا خاصًا، نظير أن مدةً كهذه قد يختلف تصنيفها بين أن تكون جزءًا من الاتجاهات الحديثة في السينما، والتي تختلف لتجسد موقفًا يقاوم السرعة الحياتية التي تضعنا في سياق سينمائي يحمل خصوصيته، وذلك بالمقارنة بكمية الصور الهائلة التي نتعرض لها يوميًا. أو عند مجرى الملاحم السينمائية الكبرى، والتي يقوم تكوينها على خلق الرحلة الطويلة بمختلف فصولها؛ كما جاء في أعمال شهيرة كفيلمي “القيامة الآن” أو “أبواب الجنة” مثالًا.

إلا أن هذين الفيلمين – واللذان أراهما أفضل ما قدمه كل من “كوبولا” و”تشيمينو” – كانا أيضًا الضربة الموجعة لسينما المخرج في هوليوود السبعينات والمسمار الأخير في نعشها. ولا يتعلق هذا السقوط بجودتها، فهي أكثرها كمالًا وأعمقها تعبيرًا وانجعها تأثيرًا، لكنها أفلام حاولت قهر ما لا يمكن قهره على المستوى الانتاجي، وأن تحمل فوق ظهرها ما لا يمكن للسينما أن تتحمل، وخلق موقفًا ابداعيًا لديه من الجبروت ما يسعى لتجاوز كل سماء، وتخطي كل عائق أيًا كان شكله، وذلك بعد البريق الأولي الذي أضاء مسار المخرجيّن في أفلام مثل “العراب” و”صائد الغزلان” والذي أدى فيما بعد إلى فقدان ثقة الشركات المنتجة من جهة، والجمهور الساعي لجرعة من السابق من جهة أخرى.

 ولذا فإن علينا وضع هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر في حسبان “أحلام العصر”، وبالشجاعة التي يمتاز بها فيلم الأخوين قدس، خاصة وأنه الفيلم الثاني الذي يأتي بعد “شمس المعارف” (أول فيلم سعودي خلق ارتباطًا فعّالًا مع الجمهور). وربما تكون هذه الثقة هي أكثر ما احترمه في نهج “فارس قدس” بشكل خاص، والذي ينعكس في علاقته مع جمهوره وارتباطه الأسلوبي في وسيلته، عبر كل إطار يُقدّمه وانتقال يحدثه فيلمه، أو حتى تراكيبه لمشاهده الذي يروي من خلالها حكايته بشكلٍ يبعث يقينًا بأنه سيحقق ما يصبو إليه، وسيبلغ إلى هدفه كل مرة بأكثر الطرق رشاقة.

 يبدأ الفيلم الثاني للأخوين قدس عند شخصية (أحلام) مؤثرة التيك توك التي تلعب دورها المؤثرة كذلك والممثلة (نجم) مظهرةً شخصيتها طابعًا مستمدًا من البوب الكوري في المحتوى الذي تقدمه. وكما يفتح مؤثرون منصات التواصل الاجتماعي باب حياتهم للناس جميعًا، تُدخلنا أحلام إلى الفيلم بحديثٍ موجه إلى الكاميرا ولنا مباشرة، تحكي لنا فيه تفاصيلًا دقيقة عن حياتها وعن رغباتها، وبشكل رئيسي عن والدها لاعب كرة القدم المعتزل صمدو قمرالدين (صهيب قدس) على نفس لقب لاعب الأهلي السابق صمدو – عبدالعزيز عمر.

تكوين صمدو هو تكوين يتناغم مع الكثير من اللاعبين الذين أخذوا حيزًا مهمًا في سياق الثقافة السعودية، ويزيد هذا التأثير عندما نرى في الجلسة التي يذهب إليها لاعبون آخرون زاحت عنهم الأضواء في وقتنا الحالي، كما في مالك معاذ ومختار فلاته، مما ينشيء بذلك سمات واقعية لهذا الفرد الهجين بين العديد من الشخصيات التي نسترجعها من خلاله، في هدف ماجد عبدالله على الصين وفي لقب ماردونا العرب لسعيد العويران وغير ذلك الكثير. كما يلعب صهيب قدس دوره هنا كصهيب قدس نفسه بكل ما يحمله من فكاهة غاضبة، وحماقة هزلية، وخلوٍ من صبر، وعدم وجودٍ لحاجز بين الفكرة والكلمة، ونطق كل ما يتراود في ذهنه دفعة واحدة.

 ومن خلال تفرد السرد وثراء التفاصيل، وبفضل طاقة مونتاجية تضبط إيقاعًا مرتفعًا للغاية، يتناول الفيلم في أجزائه الأولى أيام صمدو بامتاع؛ عن هزيمته وتعلقه بالماضي، وتعمقه في غمرة الكحول وتسلطها على عقله، بالإضافة إلى حقده المتفجر تجاه زميله اللاعب السابق نايف الجمعة، ومن جهة أخرى نشهد البروز المربك لنجم (أحلام) في الساحة وشهرتها بالتزامن مع انضمام أبيها لمشروعها، والذي يقودهما بعد ذلك إلى تلقي عرضًا تعاقديًا من قبل شركة الإعلانات ألافندر تحت إشراف كل من حكيم (حكيم جمعة) وألاء (فاطمة البنوي) وذلك بمقابل مادي ومنزليّن في مشروع اسمه فيجن لاند أو بما يمكن وضعه تحت تصنيف بيع الأحلام.

 حيث يتجلى لنا منذ البداية إدراك فارس قدس بجمهوره، فهو يفهم بدقة ما يقدمه وما يستهدفه، وبماذا يقوي ما ترويه صورته، مندرجًا ذلك إلى درايته بسياق الثقافة العامة في السعودية، وتبعات البرامج اليوتيوبية التي عمل عليها سابقًا، ويظهر تحقيقه لذلك من خلال تنشيط أدوات لا تؤثر فقط في تطوير الحكاية، وإنما تسهم أيضًا في تشكيل الطابع الشامل للفيلم، كما حدث في عنصر القوة الأساسي في “شمس المعارف” وأكثر.

 ومع تقدم الأحداث، يصبح واضحًا أن الأسلوب الذي يتبناه الفيلم في التسلسلات وحتى في هيكلة السرد، يشير إلى فكرة السينما التي تعتمد على الأثر التراكمي أو بناء الحالة المثقلة شعوريًا نظير الرحلة الطويلة والمجهدة، لكن مع بناء ايقاع عالي جدًا منذ البداية، ومحاولة الحفاظ عليه بالرغم من انتقاله من الكوميديا إلى التراجيديا، فإن الأخوان يقصدان أكثر الإيقاعات فتكًا وأصعب أنواع السينما تطبيقًا، تلك التي فيها من الركض ما يتطلب رئةً تستوعب جهد الرحلة، أو عالمًا يمكن التمدد فيه بقدر المسارات التاريخية التي يحملها فوقه، كما كان في فيلم كوستوريتسا “اندرغراوند” أو حتى في مثالٍ حديث مثل “ذئب وول ستريت”. بين النمط الساخر والشخصيات العابثة ومن ثم الانتقال السلس إلى حالة من الاشتعال البطيء أو تجسيد الانهيار في الإمبراطوريات دون الإخلال السردي بين النوعين.

أحلام العصر

 لكن ما يبتغي الفيلم وصول إليه هو أكبر بكثير مما يستوعبه عالم “أحلام العصر”، فبعد بداية تُعد الأكثر طموحًا لأي فيلمٍ عُرض في المهرجان، لـ٤٥ دقيقة من القصصية الممتعة، وذلك في مشاهدٍ كتبت بصريًا، وكُثفت تفاصيلها بمونتاج خاطف، الذي وفق الكاتب في اختيار مكانها، واتقن المخرج الانتقال بينها، وانتقاء ما يغوص مشهده في اعماقها. انزلق الفيلم شيئًا فشيء بعد ذلك إلى الهوامش، وخلق لنفسه مسارات دون بيان الدوافع، وسقط الحافز القصصي مقابل انبثاق تفرعات اضافية وُجدت لغرض بث هذه الحالة.

 فحكاية صمدو لا تتحمل مشهدًا سرياليًا مطوّلًا من الغرق داخل المطبخ الممتلئ بالذكريات والشعور بالذنب، كما أن الطريقة التي قُدم فيها الممثل حكيم جمعة  في النصف الأول من الفيلم لا تتحمل فصلًا كاملًا من “الفلاشباك” ونحن على أعتاب نهاية الرحلة، بالاضافة إلى العديد من التشعبات السردية الأخرى التي أزالت من الفيلم غرض الرحلة وأخمدت جاذبيته التي بدأ منها.

 قد تكون هذه المشكلة مماثلة للتي واجهت “شمس المعارف” في جزئه الأخير، إلا أنها تمددت هنا لمدة قد تتجاوز الساعة، ذلك وبالرغم من كل القفزات الابداعية التي خاضها فيلم “أحلام العصر” على الجانبين التقديمي أو التوظيفي مقارنة بفيلمهما الأول. مما يضعنا في موضع ترقب عن ما هي الكيفية التي ستكون عليه تجربتهما القادمة وماذا يخبئ الأخوان قدس بعد أحلام العصر؟

 

شارك هذا المنشور