يمكن لقصّة رجل قادر أو غير قادر على الطيران، أن يُبنى عليها الكثير، خصوصًا إذا كانت خارجة من بين يدي مخرج يعرف ما يريد من سينماه، لكنها أيضًا يمكن أن تكون مجرد فكرة مثيرة، لا تطير إلى أي مكان؛ وإن طارت قليلًا، تهبط في اللامكان، تمامًا كما حدث مع “وراء الجبل” لمحمد بن عطية (1976).
تعرّفنا إلى المخرج التونسي من خلال باكورته الطويلة “نحبك هادي” التي شاركت في “مهرجان برلين” عام 2016، وحصدت جائزة أفضل عمل أول، وممثله مجد مستوري نال جائزة “الدب الذهبي” لأفضل ممثل. أما فيلمه الثاني “ولدي” (2018)، فقد شارك في تظاهرة “أسبوعي المخرجين” ضمن “مهرجان كان”.
جديده “وراء الجبل” (2023) شارك في مهرجان فينيسيا، وها هو اليوم يشارك في “مهرجان البحر الأحمر السينمائي” المقام حاليًا في جدة. هكذا، يعود بن عطية بقصة تتماهى فيها الحدود بين المعلوم والمجهول، لا نعرف إن كانت واقعًا أو خيالًا. يعرف عطية كيف يبتكر شخصيات غامضة ذات رغبات جامحة، عادةً ما تنتفض ضد الأعراف والقيود المجتمعية. نرى هذه الشخصيات في فيلمه الجديد، لكنه لم يصل بها إلى أي مكان، وأوقع نفسه وأوقعها معه في دوامة لا فكاك منها.
رفيق (مجد مستورة)، رجل غامض، ذو روح متمردة ولكن رقيقة وساذجة، يغادر السجن بعدما أمضى عقوبةً لمدة أربع سنوات، بسبب تدميره المكاتب التي يعمل فيها وإلقاء نفسه من الشباك، نتيجة نوبة لا يمكن تفسيرها على ما يبدو. بمجرد خروجه، لا يفكر سوى بالعثور على زوجته وابنه ياسين (وليد يوشيوة) ليأخذهما بعيدًا، ويُطلعهما على سرّه: إنّه قادر على الطيران! بعدما لم تصدّقه زوجته، يتوجه إلى مدرسة ابنه ويأخذه بالقوة في رحلة يائسة نحو الجبال. هناك يلتقيان براعي أغنام (سامر بشارات) يصرّ على الذهاب معهما، ولكن ملاحقة الشرطة لرفيق تجبره على التسلل إلى منزل، ليزرع الذعر بين أفراده المحصّنين داخله.
“وراء الجبل” فيلم بدون قافية ولا سبب، لا يقدم بن عطية لا لنفسه ولا لمشاهديه تفاسير سهلة، هو عودنا على ذلك في أفلامه السابقةـ ولكن الجمود الذي يحيط بالقصة وبطء تدفق الأحداث في النصف الثاني من الفيلم يجعلاننا نتساءل: ما هو السبب الكامن وراء أفعال الشخصيات؟ والأهم ما هو السبب الذي يجعل بن عطية يقدم فيلمه بهذه الطريقة؟
جاء العمل مخيبًا للآمال، بل لعله أسوأ أفلامه حتى الآن، إذ حاول المزج بين الفانتازيا والإثارة النفسية لكنه خرج خالي الوفاض من الاثنين. مزيج من أشياء كثيرة عملت ضده تقريبًا: التحرر والحرية، الانفصال عن المؤسسات الاجتماعية، أو ببساطة الهروب من الناس، من المجتمع، والتواري خلف الجبال، كلها أفكار جعلت فيلم عطية يقبع مكانه، بلا حراك ولا طيران.
بدأ بن عطية فيلمه بطريقة ممتازة، فجعلنا مشدودين إلى القصة، ومترقّبين لما سيحدث. ولكن حالما وصل وابنه إلى الجبال، وقع في دوّامة الملل والفراغ، وفقد كل جاذبيته. عندما دخل رفيق مع الراعي وابنه إلى بيت العائلة، تحول الفيلم إلى نوع من الإثارة النفسية التي لا يدرك بن عطية مفاتيحها على ما يبدو.
سجن شخصياته في بيت، وسجننا معها بلا سبب، وبدأ باللفّ والدوران حول نفسه والفيلم، مما أعطى شعورًا بأنّه لا يدري كيفية الخروج من البيت أو المشكلة التي أوقع نفسه وفيلمه فيها، أو حتى كيفية إنهاء فيلمه. “وراء الجبل” ملبّد بالمشاعر، حتى إنّ الغضب والعنف غير مقنعين، والقدرة على الطيران تبدو عديمة الفائدة في مواجهة الواقع الذي يجبر البطل على التصرّف كشرير، كأن الشخصية الرئيسية كُتبت بطريقة متهورة وبلا مبالاة، فـ”ثورة” رفيق ليست مصقولة لتحلّق بالفكرة عاليًا، بل هي غريزية وغير مبررة.
ليس لدى الفيلم الكثير ليبدأ منه، كأن بن عطية استنفد كل أفكاره وموهبته السينمائية في الدقائق الـ15 الأولى من الفيلم، والباقي يتلخّص في محاولته جعل الفيلم يواجه الخيال بالواقع. رحلة الطيران كرمز للحرية بسيطة ومتكررة نوعًا ما، والقصة لا تمتلك القوة الثاقبة التي يستحقها موضوع من هذا النوع للخروج من السذاجة. هذا التوق إلى الحرية الذي يتم التعبير عنه من خلال الرغبة في الهروب (الطيران)، الرمز الأساسي لهذه الفكرة، لا يصل إلى الهدف تمامًا، مما يتركنا في حيرة شديدة بشأن ما نشاهده، ومدى طول طريق الخلاص المحتمل، الذي يترك وراءه دربًا طويلًا من الملل. على الرغم من حبّ بن عطية للفانتازيا، إلا أن فيلمه يبقى على المستوى الأساسي من الواقع، في قصة لا تصل أبدًا إلى جوهر الموضوع.
سينما تحاول أن تصبح رؤية، ولكنها تبقى مجرد فكرة فارغة.