يشي برنامج الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر، بمسعى منظميه ومنذ دورته الأولى لتكريسه واحدًا من بين أهم المهرجانات السينمائية المقامة في المنطقة، من خلال جمعه بين اشتراطات المهرجانات العالمية وبين مراعاة محليته، والاشتغال على جعله منصة لتطوير ودعم مواهبها السينمائية، وبشكل خاص السعودية منها.
هذا التوجه يلخصه شعار الدورة: “قصتك بمهرجانك”، والأقسام المتعددة التي من خلالها يُتيح المهرجان المجال أمام المواهب السينمائية الشابة للتنافس والحضور بين الكبار. هذا يفرض على الطامحين في التنافس والحضور أن يرتقوا بمستوى إنتاجهم السينمائي، ليبرروا وجودهم بين صُناع أفلام يتم اختيار أفلامهم لاعتبارات فنية وجمالية عالية.
كلمة الرئيس التنفيذي لمؤسسة البحر الأحمر السينمائي، محمد التركي، والمدير العام للمهرجان، شيفاني بانديا توجزه، أوضحا فيها أن شعار المهرجان لهذا العام: “قصتك بمهرجانك”، يأتي من وحي الاختيارات الرائعة للأفلام التي تم إنتاجها في المنطقة، والمميزة بجمعها لأبرز خبراء وصانعي الأفلام الجدد الذين يشكّلون مثالًا حيًا على غنى المواهب التي يتم تقديمها في هذا الجزء من العالم، ونرى في عرضها بكامل تنوعها أهمية بالغة.
في السياق؛ وتأكيدًا على رغبة منظمي “البحر الأحمر” بالعمل على دعم السينمائيين، يعتني المهرجان بسوقه إدراكًا منهم أن اتساع دور سوق المهرجان يؤشر بالضرورة إلى اتساع دور المهرجان نفسه في تنشيط الحراك السينمائي، وبكونه أيضًا مهرجان لا يضع الحصول على أحدث وأهم الُفلام هدفًا رئيسًا ووحيدًا له، بل يجاوره بعمل يُزيد به وينوع من أشكال دعمه للسينمائيين والترويج لمنتجهم الإبداعي من خلال منصات دعم أخرى مثل “صندوق البحر الأحمر”، وفي الوقت نفسه يعمل على إغناء معارف وتجارب المشاركين فيه من خلال فعالياته وندواته التي لا تتوفر للجميع فرصة حضورها كل يوم. اللافت في هذا الحقل سرعة ترسيخ مكانة سوق البحر الأحمر والتي تشجعه للمضي في توسيع مساحته وانفتاحه أكثر على كل ما من شأنه تعزيز سمعته ومكانته، وبما يساعد بشكل خاص على تنشيط حركة إنتاج الفيلم السعودي. فرغم يفاعته من السهولة ملاحظة تأثير المهرجان وسوقه على الحضور السينمائي السعودي والعربي اللافت في “مسابقة البحر الأحمر”، فلهم فيها في دورة هذا العام (30 نوفمبر – 9 ديسمبر 2023) أكثر من نصف عددها. غير أن كم الأفلام العربية الوافر في الفئتين وإعلان الدورة عن مشاركة 36 فيلمًا سعوديًا لوحدها فيه، يطرح سؤالًا حول أسباب عدم تخصيص المهرجان مسابقة للفيلم العربي؟ التجربة العربية تقول: إن أهم تَميّز لأي مهرجان منها يكمن في تخصيصه مثل تلك المسابقة. حجبها يشي بمخاوف ـ غير معلنة عادة ـ من عدم قدرة بعضها على تأمين العدد الكافي من الأفلام الجيدة لإقامة مسابقة ثابتة لها، ولهذا تلجأ إلى توزيعها على بقية مسابقاتها، لكن وفي حالة “البحر الأحمر” تبدو قدرته على توفير وتأمين مسابقة عربية دائمة أمر ممكن، وبالتالي يضحى هذا السؤال قابلًا للبحث والنقاش، وربما يفضي لاحقًا إلى تغيير قد يحصل، كما هو حاصل في “مسابقة البحر الأحمر للفيلم القصير”.
سعيًا منه للتمييز، يختار “البحر الاحمر” الجمع في مسابقاته وأقسامه المنوعة بين الوثائقي والروائي، وهذا المَيل يتطابق مع ما أخذت به مهرجانات سينمائية عالمية ومن حسناتها أنها تجعل الوثائقي كنوع فيلمي قرين الروائي، وهذا ما يحتاجه الوثائقي العربي على وجه التحديد. نجد هذا حاصلًا في قسم “روائع عربية” إذ يدرج وثائقي جمال كتبي “خالد الشيخ: بين أشواك الفن والسياسة” إلى جانب الروائية ومثله “إخفاء صدام حسين” لهالكوت مصطفى في “مسابقة البحر الأحمر” وهي المسابقة الرسمية التي تضم أفلام روائية سعودية من بينها “مندوب الليل” لعلي كلثمي، وفيه ينقل رؤيته لجانب من الواقع السعودي بعين فاحصة، تستعين بالجمال السينمائي لكشف أحوال أفراد وطبقات تتفاعل في مكان واحد وتتجلى تناقضاتها في عتمة الليل، وألى جانبه هناك منجز الإماراتي حميد السويدي “دلما” والتونسي “وراء الجبل” لمحمد بين عطية. في حين تمنح مسابقة “اختيارات عالمية” للوثائقي حيزًا أوفر من مساحتها، وتختار أفلامًا رائعة من بينها “الثااالث” للّبناني كريم قاسم، الباحث عن مدينة بيروت في لحظتها الراهنة عبر الذهاب إلى أطرافها ليوثق من هناك، أو يعيد تشكيل جانبًا من واقعها بأسلوب سرد سينمائي يجمع بين الروائي والوثائقي. إلى جانبه هناك منجز المغربية أسماء المدير المهم “كذب أبيض”.
وجود فيلمها، إلى جانب أفلام أخرى أنجزتها مخرجات اهتمت الدورة بعرضها وإدراجها بين أهم أقسامها، يؤكد توجه المهرجان للاهتمام بصانعات السينما العربيات والسعوديات، وتوفير مساحة كافية من فعالياته لمنجزهن السينمائي.
في هذا السياق يمكن ملاحظة إدراج فيلم فرح النابلسي الأول “الأستاذ” ضمن أفلام المسابقة الرسمية، وعرض منجزي كوثر بن هنيّة “بنات ألفة”، و”ثلاثة” لنائلة الخاجة ضمن قسم “روائع عربية”. وكتأكيد على هذا التوجه يشير أنطوان خليفة، مدير البرنامج السينمائي العربي والكلاسيكي في مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي إلى أن دورة هذا العام تقدم 32 فيلمًا من إخراج مواهب نسائية، ما يؤكد التزام المهرجان بتوجهه لتمكين المرأة في قطاع السينما.
وعلى مستوى العروض العالمية يلاحظ ترفع الدورة عن التسابق للحصول على الأفلام الحاصلة على جوائز المهرجانات الكبرى، بل وبدلًا من ذلك تركز على اختيار تحفًا سينمائية جديدة، يقدمها إلى جمهوره في جدة، خلال أيام الدورة الثالثة التي تُدشن أعمالها بفيلم ياسر الياسري “حوجن“.