فاصلة

مراجعات

نوري جيلان يخنق المُشاهد ويعانقه «فوق الأعشاب الجافة»

Reading Time: 5 minutes

كأن كلّ جديد للمخرج “نوري بيلغي جيلان”، يعيد خلق السينما من جديد، ولو في نطاق ضيق خاص به.

فيلمه الأحدث فوق الأعشاب الجافة“، الذي عُرض في مسابقة مهرجان كانّ الأخير وظلمته لجنة التحكيم مثلما ظُلم فيلمه الأسبق “شجرة الإجاص البرية”، هو تأكيد إضافي لعظمة هذا المخرج التركي الذي يُؤفلِم عذاباته، والمشغول حصريًا بالطبيعة البشرية والتغلغل في أعماقها، رافضًا الحلول السهلة والأفكار المسبقة، بل المهموم الأبدي بتعقيدات الإنسان وتناقضاته، مصوّرًا إياها بالالتباس الذي عوّدنا عليه.

 فهل جديده امتداد لما جاء في أفلامه السابقة؟ أم تنويعًا عليه؟ ماذا لو كان الاثنين معًا. أهو عمل كوني أم محلي؟ وهل يمكن الفصل بين الكوني والمحلي، وما الفرق بينهما؟

 

شخصيات جيلان في “فوق الأعشاب الجافة”، المتجذّرة في بيئة ولغة وهوية محلية، هم ثلاثة مدرّسين داخل مؤسسة تعليمية تقع في أعماق الأناضول. هذه الشخصيات الجريحة، التي سنتعلّم أن نقدّرها ونفهم صراعاتها لقطة بعد لقطة، تجد نفسها في مواجهة أسئلة الوجود التي تبقى بلا جواب حتى اشعار آخر. إنها شخصيات كشف جيلان في حديث صحافي أن اثنتين منها لهما وجود في الواقع. قلوب هؤلاء تغمرها الميلانكوليا مثلما تغمر الثلوج سهول الأناضول، التي تلعب دور المسرح العدمي لهذه الشخصيات التي يتملكها شعور مزمن بأن حيواتها مؤجلة ومستقبلها ضائع.

البطل، كما الحال في العديد من أفلام صاحب “سبات شتوي”، بطلٌ مضاد، يُدعى سيميت (دينيز سليلوغلو)، ثلاثيني يُدرِّس الرسم لأولاد الفلاحين والمزارعين، لكنه لا يحلم بسوى أن يتم فرزه إلى اسطنبول. المشكلة أن هناك ما يعيق هذا المخطط.  

تتناسل أحداث الفيلم القليلة من سيميت، لكنها لا تدور حوله حصريًا. شريكه في السكن (مصعب أكيسي)، أستاذ فاتته فرصة الترقّي المهني. كلاهما غير متزوج، يتبادلان الخواطر والطرائف عن شرطهما الإنساني. إلى اليوم الذي سيُتَّهمان فيه بالتحرش ببعض التلميذات. إنها لحظة مفصلية في الفيلم، سيتحوّل سيميت على إثرها إلى إنسان آخر، فتزداد عزلته ومرارته وينكشف ما كان يخفيه من أزمات حتى الآن، أبرزها حاجته إلى السيطرة والتملّك، وذلك بعد شعوره بأنه طُعِن في الظهر نوعًا ما.

فوق الأعشاب الجافة

سيصبح سيميت أكثر توتّرًا بعد دخول المُدرِّسة صاحبة الساق المبتورة نوراي (مروى ديزدار – الفائزة بجائزة التمثيل في كانّ 2023)، على الخط. الأخيرة مكلومة تعيد بناء نفسها، لكن هذا لا يمنع أنها تقارب الحياة بالكثير من الحكمة التي يمكن اعتبارها رضوخًا واستسلامًا. فهي ترى سيميت من زاوية لا يمكن أن يرى نفسه منها، ولا تتوانى عن مصارحته بأن مشكلته ليست في مكان إقامته، بل في ما يتأجج في داخله من صراعات يجهلها. العلاقة بينهما تمد الفيلم بدفء وحميمية، فتولد على شرفهما السجالات التي تشرّع نافذة على جوانب معقّدة من الوجود الموشوم بالقلق والخوف. ورغم محاولات سيميت للفت انتباهها، إلا أن نوراي تبدي اهتمامًا أكبر برفيقه.

فيلم فوق الأعشاب الجافة les herbes sèches

تتجسّد الذروة الدرامية للفيلم في لقاء سيحدث بينهما، واللقاء هذا سيشكّل للشخصيتين لحظة مصارحة وكشف تناقضات، كما أنه سيشكّل للمُشاهد مناسبة ليعي كم أن المفاهيم مطاطة، ولكلٍّ منّا القدرة على إعطاء الحياة معاني مختلفة. على غرار ما تقوله إحدى الشخصيات؛ فإن ما تحرّك سينما جيلان ليس الأحداث، بل اللامرئي الذي يُعطي حياة الإنسان معنى.

سيميت الذي يمسك بمفاصل فيلم تتجاوز مدته الساعات الثلاث، غير خفيف على روح المُشاهد، إذ يجلد ذاته والآخرين باستمرار، ممّا يخلق نفورًا عند بعضهم. وهو أيضًا شخصية مشبوهة يمكن رسم علامات استفهام حولها وحول سلوكها. يعرف جيلان ذلك فنجده يجنّد كلّ طاقاته كي نفهم سيميت ونحاول رؤيته من الداخل، وكأنه يراهن على رقم يعرف مسبّقًا أنه خاسر. وهذا ما يضع عوائق بيننا وبينه، يعمل الفيلم على إزالتها خطوة بعد خطوة، الأمر الذي يضخّم حجم التحدي.

سيميت كثير الشكوى، لا يعجبه العجب، يعاني من إحساس مزمن بأنه لم يحقق ما يريده، وهذا ما يبث فيه روحي العدائية والتكبّر. لكنه، مع ذلك يوفّر لجيلان منصّة لقول ما يريد وما يطمح إلى تأكيده، مع الإشارة إلى أن شخصيات جيلان لم تكن يومًا على درجة عالية من الخفّة والسلاسة.

فيلم فوق الأعشاب الجافة

كعادته، يشيّد جيلان بنية فيلمه على اللقطات الحوارية الطويلة المشبّعة بروح تشيكوفية، حيث البوح يحتل الصدارة ويساهم في تطوير الأحداث وبلورة الشخصيات. في حين أن للطبيعة التي تحضن كلّ شيء كلمتها في ما يجري وفي الشخصيات التي تمر عبرها، ويصوّرها جيلان باعتبارها كائنًا في ذاته، لا كمجرد ديكور.

يعتمد السيناريو لعبةً، الهدف منها الإضاءة هنا والتعتيم هناك. كلّ المواضيع وكلّ الأفكار التي يتم التطرق اليها، ستبقى معلّقة في الأخير، وهذا جزء من مشروع المخرج. 

فيلم فوق الأعشاب الجافة les herbes sèches

“فوق الأعشاب الجافة” فيلم فلسفي يتواجه فيه عالمان، أحدهما قديم متهالك وآخر أحدث يطل بغيابه من خلف الجبال. إنها اسطنبول حيث الفرص الأكبر والانصهار داخل المدينة التي يطمح سيميت للانتقال إليها، مقابل البيئة الريفية التي تعيش وتعمل فيها الشخصيات. الحاجة إلى الصمود عند هؤلاء ستطل برأسها من داخل هذه المواجهة، وهذا ما يضعنا أمام استعارة سياسية سيظل الفيلم ينكرها حتى اللحظة الأخيرة، محولًا إياها إلى إحساس أكثر منه خطابًا.

من خلال نظرة قاسية وسينيكية مضمخة بالعطف، يرميها على كلّ كبير وصغير، يحرر جيلان الشخصيات من أزماتها، ويحررنا معها، لعل هذه الحرية تساهم في أن تطفو الحقائق على السطح. قسوته التي تبدأ من الأسفل لتبلغ الرأس في النهاية، تحاول خنقنا، قبل أن تعانقنا، وذلك فوق الأعشاب الجافة!

يفرض جيلان على نفسه طوقًا من القيود، بعضها يعاكسه أحيانًا ويجعله على قدر من الهشاشة، فيستمد منها قوته السينمائية. يمكن القول إنه يوظّف الشك لبلوغ درجة من اليقين لا يبلغها إلا مَن يحوط نفسه بهذا القدر من التساؤلات. أما الضعف الذي يحتك به ليمتحن قدراته، فيفتح له الطريق إلى الجبروت السينمائي. وكم بديعة تلك اللحظة التي تُدفَع فيها البوابة في اتجاه المقلب الآخر، لنجد أنفسنا فيه فجأةً ومن دون أي استعداد، هناك، خلف البوابة، حيث الورشة التي تُنسج فيها الحكايات، رغبةً منه في وضعنا أمام حدود الممكن في السينما، على غرار ما فعله عدد من السينمائيين من قبله، أي تذكيرنا بأننا في السينما وداخل الصالة وأمام الشاشة، وكلّ شيء ما هو سوى وهم بوهم، أما الحقيقة فأبعد وأعمق وأكثر تعقيدًا من هذه الجزئية التي نشاهدها وكأنها عالم كامل متكامل. الجميل في خطوته هذه هو أن علاقة المتفرج بما يشاهده لن تتزعزع بل تصبح أقوى بعد هذا الخروج عن النصّ.

Nuri Bilge Ceylan

لا يوجد في السينما المعاصرة مَن هو أكثر نقاءً من جيلان عندما يتطرق إلى الأسئلة الوجودية، وهو في الدرجة نفسها من الصفاء عندما يصوّر الزمن ووطأته على مواطنيه الأتراك الذين يخشون أن يفلت (الزمن) من بين أصابعهم، مع ما يترتّب على هذا الهاجس من قلق وحيرة وبحث. هذا كله مادة دسمة لإنجاز عشرات الأفلام، لكن أيًا منها لن يشبه ما يعرضه علينا جيلان بإحساس عالٍ بالزمان والمكان، وفضول عارم في استكشاف أسرار النفس البشرية. 

إنه السينمائي القادر على اختزال العالم بأكمله في جملة تأتي على لسان إحدى شخصياته. وفي هذا لا يختلف كثيرًا عن عباس كيارستمي. “فوق الأعشاب الجافة” فيلم كبير عن الامتثال وأوهام الحياة والخيارات التي تحملنا إلى هنا بدلًا من هناك، نجد فيه ما يتحوّل مادة للسجال بشكل واضح وصريح، إلى جانب ما ينبغي لنا أن نلتقطه من بين السطور. فسينمائيّ مثل جيلان، يلفّه الغموض والالتباس، لا يأبى إلا أن يسلّم بعضًا من أوراقه ويحتفظ ببعضها الآخر.

اقرأ أيضا: هل تعكس أوسكار أفضل فيلم دولي حقيقة السينما العالمية؟

 

شارك هذا المنشور