عُلَّقتُها عَرَضًا وَعُلَّقَت رَجُلًا
غَيري، وَعُلَّقَ أُخرى غَيرَها الرَّجُلُ
وَعَلَّقَتهُ فَتاةٌ ما يُحاوِلُها
مِن أَهلِها مَيِّتٌ يَهذي بِها وَهِلُ
وَعُلِّقَتني أُخَيرَى ما تُلائِمُني
فَاِجتَمَعَ الحُبَّ حُبًّا كُلُّهُ تَبِلُ
فَكُلُّنا مُغرَمٌ يَهذي بِصاحِبِهِ
ناءٍ وَدانٍ وَمَحبولٌ وَمُحتَبِلُ
كم تُشبه هذه المقطوعة الشِّعرية الضاربة في القدم للشاعر الجاهلي الأعشى حالَ أشخاص فيلم «عفاريت الأسفلت»، بما فيها من تشعُّبٍ في العلاقات؛ فكل شخصية تعيش بشكل طبيعي مع شخصية أنثوية، بينما قلبها معلق بشخصية أخرى في السر، وأحيانًا يكون هذا التعلق خارجًا عن المنطق، وعلى الرغم من ذلك عبَّر الفيلم عن الحالة التي كان كاتب القصة والسيناريو مصطفي ذكري ومخرج الفيلم أسامة فوزي يريدان الوصول إليها.
في زحمة هذه العلاقات، تبرز شخصية بطل الفيلم الأُسطى سيد (محمود حميدة) الذي يجمع داخله تناقضات الحياة بين خيرها وشرها، حيث يتصارع فيه البعد الأرستقراطي والبعد الشعبي، فهو الـ «جدع» الذي يتصرف بدناءة، يشتري ملابسه من وكالة البلح، لكنه يختار منها المستورد والنظيف، يمشي متبخترًا، لكن تستطيع نظرة طفلة مريضة أو شاب مختل عقليًّا أن تهد روحه، وتعيده إلى جذره الإنساني العميق، يستمتع بجارته وعينه على فتاة الجامعة المثقفة، يعمل الواجب مع عائلته وأهل منطقته، بالمقابل لا يرفع الـ (مطواة) في وجه أحد حتى تعود بالدم إلى جيبه. روايته في الفيلم لا نسمعها من أحد الرواة أو منه شخصيًّا، بل تتسرب إلينا من خلال حركاته وتصرفاته داخل الكادر. كل ذلك جعله الشخصية الأعظم من بين شخصيات أسامة فوزي السينمائية، ومن خلاله فعل فوزي المستحيل السينمائي، فالأسطى سيد شخصية من دون مرجعية روائية أو سينمائية، وشخصية لن تكون مقنعة أو مُصَدَّقة إلا داخل الكادر السينمائي.
في أفلامه الأخرى يقدم أسامة فوزي عوالم روائية، تستطيع بسهولة أن تلخصها من خلال أحداث رئيسة، أما في «عفاريت الأسفلت»؛ فالأمر مختلف تمامًا، فالهامش الحكائي هو المتصدر، لهذا لا يبدو الفيلم شبيهًا بأفلام أخرى لمخرجي جيله، ولا لأفلامه هو شخصيًّا، فالفيلم قائم على اقتناص حالة، وكأنه خارج من هلوسات الذات المهووسة بالصورة والصوت، والعبقرية كامنة في الانتباه المبكر لهذه المعضلة، لهذا زرع داخل الفيلم شخصية الحلاق محمد (الحكّاء)، الذي قام بدوره الممثل الرائع (حسن حسني)، ويُعتبر الحكي بالنسبة لهذه الشخصية مقابلًا للوجود، ما أعطى للفيلم شكلًا حكائيًّا شهرزاديًّا، يكسر هلامية شخصيات الفيلم وخفة وجودها، فالشخصيات بائسة وسعيدة في اللحظة ذاتها، شريفة ووضيعة كذلك، تعرف وتتجاهل، تُفلسف الحياة وتتشدق بالتفاهات، رثة تمامًا لكن داخلها حياة حقيقية وناصعة، ولو انتبهنا إلى شخصية صالح ملمع الجزم، الذي لعب دوره (لطفي لبيب)، أو شخصية الجد الذي لعب دوره الفنان القدير (محمد توفيق)، سنلاحظ العمل على الثنائيات، فالأول مهذار ويتكلم كما لو كان في برج عاجي، على الرغم من مهنته بالغة التواضع، والآخر أسكته الكبر والمرض لكنَّ عينيه وابتساماته فاضحة لثراء نفسه، كما لو كان إلهًا يراقب حيوات الآخرين في صمت، متجاهلًا حالته البائسة.
كل ما سبق يثبت لي أن «عفاريت الأسفلت» سينما خالصة وليس شيئًا آخر، فلا تستطيع أن تتعاطى مع العمل من ناحية بُعده الحكائي الذي يحمل خطابًا معينًا، ولا كشِعرٍ تحس من خلاله ما لا تستطيع اللغة التعبير عنه، هو حالة من التفكير باستخدام أدوات السينما، ولو لم يترك أسامة فوزي سوى هذه التحفة لكفته، وهذا ليس تقليلًا من أعماله الأخرى، لكنه في هذا الفيلم عبّر بشكل مفزع عن وعيه المبكر لماهية السينما.
هناك ما يمكن أن نضيفه من ناحية أصالة الفيلم، ففي السينما المصرية هناك أفلام كثيرة تمتاز بأصالة عوالمها، لكن فيلم «عفاريت الأسفلت» يختلف عنها بأصالة نوعية وفريدة، أصالة تشعر أنها مصحوبة ببحث معمق من ناحية أماكن التصوير ورسم الشخصيات والاهتمام بالزي والملابس، وهنا لا أتحدث عن واقعية الفيلم وتطابقه مع الحقيقة على أرض الحياة فعلًا، بل أتحدث عن عبقرية حركة الكاميرا على هذه الأرض الحقيقية، وعن وفاء الشخصيات للزي الذي تلبسه، وعن الأصوات الغريبة التي تظهر في أصوات الـكلكسات، وفي الكلمات التي تبدو بلا معنى محدد، والمزروعة بشكل طبيعي في أفواه الناس في موقف المكروباصات، كأنها أشجار وُجدت على شاطئ النيل بلا غارس.
كما أن تموقع الشخصيات داخل أماكن التصوير، يبدو عفويًا، وقد يكون من السهل فعل كل ذلك في السينما المصرية، لكن الاستثنائي في هذا الفيلم هو إيجاد مساحة لحكاية سينمائية لا تتسرب إلى المشاهد من خلال الحوار وحده، بل من خلال وجهة نظر الصورة والصوت في آن، وهذا النوع من الأصالة لا يحيل إلى الواقع بأي شكل من الأشكال، بل يحيل إلى محاولة استنطاق الواقع من خلال عين عدسة الكاميرا السينمائية.
ومع كل المكونات السينمائية السابقة وغيرها، جاء البعد الأسطوري من خلال حكايات الحلاق، ليضيف للفيلم قيمة تاريخية، وكأن حكايات الحلاق هي الحبل الثخين الذي يربط هذا الوجود العبثي بالماضي التاريخي العبثي هو الآخر، فجاء هذا المكون الأسطوري في الفيلم كأنه تبرير مسبق للحالة الذهانية التي عبر عنها المخرج سينمائيًّا. وكم أُحب تلك الأعمال التي نجد داخلها دفاعها الذاتي عن نفسها، ما يجعلني أحمد للمخرج وعيه النقدي، وكأن العمل مكتوب بطريقة السؤال الذي تتبعه إجابة، والذي تم تحويله لاحقًا إلى حوارات وصراع بين الشخصيات، إن هذا التعامل مع السينما في ظني يجعلها ترتفع درجة عن كونها فنًّا وُجد لغرض الامتاع والمؤانسة -وهذا مشروع جدًّا- إلى منزلة أعلى، هي التعامل مع الفن بوصفه أداة من أدوات المعرفة، ففي هذا الفيلم نقد للوجود الذاتي، وحوار مع الماضي، وتعبير عن وجهة النظر.
العجيب أن كل ذلك لم يتم من خلال الحكي التقليدي الذي قد نجد مثيله في الشِّعر والرواية، بل من خلال الفلسفة السينمائية -إن صحت العبارة- التي تتحول فيها الكاميرا إلى أداة من أدوات التفكير والتعبير في آن واحد، وهذا ما قصدته بالتحديد من كون السينما أداة معرفية، وأعتقد أن أسامة فوزي قد حقق هذا البعد المعرفي بنعومة لذيذة في فيلم «عفاريت الأسفلت» أكثر من تحقيقه في أفلامه الأخرى.
اقرأ أيضا: أفلام أبي… أفلام أمي