في كتابهما «50 عاماً من السينما الأميركية» (1991)، أشار المخرج والكاتب الفرنسي برتران تافيرنييه ومواطنه الناقد والمؤرخ جان بيار كورسودون، إلى أن إحدى ركائز أفلام كلينت إيستوود اهتمامه بفكرة «الفردية اللااجتماعية».
لقد أثبت الزمن صحة ما ذهب إليه الثنائي الفرنسي، إذ تمتلئ مسيرة إيستوود الإخراجية الطويلة بشخصيات هامشية تقع على حافة الحياة الاجتماعية والنظام «الأخلاقي»: من الواعظ الغامض في فيلم «الراكب الشاحب» (1985 ــــــ Pale Rider)، إلى شخصية ريتشارد جويل في فيلم «ريتشارد جويل» (2019 ــــــ Richard Jewell)، وميكو في «كراي ماتشو» (2021 ــــــ Cry Macho)، مروراً طبعاً بالشخصية العظيمة والت كوالاسكي في تحفة إيستوود «غران تورينزو» (2008 ـــــ Gran Torino)، إضافة إلى شخصية جاستن كيمب (نيكولاس هونت في أفضل وأهم أدواره السينمائية) في آخر أفلام إيستوود «عضو المحلفين رقم 2» (2024 ـــــ «Juror #2).
يعدّ فيلم إيستوود الجديد امتداداً وتطوراً إضافياً لفكرة «الفردية اللااجتماعية»، والقضايا التي يتعامل بها المخرج الآن بشكل أكبر أي: موضوع الفرصة الثانية.
بهذا المعنى، يجسّد جاستن كيمب الضوء والعتمة، فهو رجل تخلّص من خطاياه (إدمان الكحول)، وكان يجهّز غرفة الأطفال في منزله حين دخل قاعة المحكمة ليكون عضواً في هيئة المحلفين. هو وزوجته أليسون (زوي دوتش) ينتظران مولودهما، ويشعران بالقلق الشديد لأنّ حملها الأخير انتهى بشكل مأساوي قبل سنوات.
مع ذلك، يظهر جاستن متحمّساً ومنتبهاً، يجلس بين أعضاء هيئة المحلفين في قضية جنائية تأخذ منعطفاً مفاجئاً وغير متوقع: تم اتهام جيمس (غابرييل باسو)، بقتل صديقته كيندال (فرانشيسكا إيستوود، ابنة المخرج)، وسرعان ما يدرك جاستن أنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بعملية القتل هذه التي حدثت قبل سنة. ومن هذه اللحظة، يولد إلتباس إجرائي ووجودي، ويجد جاستن نفسه في صراع مع معضلة أخلاقية خطيرة. معضلة يمكنه استخدامها للتأثير على حكم هيئة المحلفين لإدانة أو تبرئة القاتل المتهم.
الفيلم عبارة عن نقد مبطّن للنظام القضائي الأميركي وآلياته القديمة. يضع إيستوود في مركز الحدث رجلاً نبيلاً يجد نفسه على حافة الهاوية، يستطيع بكلمة أن يدين ويحكم، لتظهر المعضلات والأسئلة: ما هو العدل؟ وما هو الصواب؟ الفيلم، الذي يُروى بهدوء وصدق وشفافية صانع أفلام لديه كل الوقت المتبقي في العالم، يتأمّل العملية العاطفية لهذه الشخصية بكل تعقيداتها.
إيستوود هو سيد صقل أسلوبه ببراعة من خلال إزالة كل ما هو غير ضروري للتركيز على تقديم درس في السرد السينمائي، عبر دراما قانونية تتجاوز إلى حد كبير لغز الحكم. إيستوود لا يطرح هنا لغزاً، لأنّ الأوراق على الطاولة منذ اليوم الأول للمحاكمة، لكنّ براعة إيستوود تتمثل في تقديم فيلم بهذا التعقيد العاطفي والأخلاقي، ولو أنّ كل شيء واضح تماماً أمامنا منذ بداية الفيلم.
من المغري أن ننظر إلى الفيلم باعتباره عرضاً متميزاً لخيال إيستوود، لكن المخرج الأسطورة يجبرنا على تجاوز ذلك، كاشفاً عن تشابك العديد من العناصر المحورية من السينما الكلاسيكية بأكملها. فهناك مهارة تجمع بين شخصيات هيتشكوكية متمثلة في الجاني الزائف ونقل الذنب، كما أنّ القصة تصل إلى كثافة درامية تستحضر دوستويفسكي.
ثم في لحظة المداورة، يعيد فيلم «عضو المحلفين رقم 2» الموقف الخانق لفيلم «12 رجلاً غاضباً» (1957 ـــــ 12 Angry Men) لسيندي لوميت، ولكن بتحويل موضوع البحث عن الحقيقة إلى معركة رهيبة بين الواجب المدني والخلاص الشخصي. وأخيراً، في أكثر جوانبه قتامة، يستسلم الفيلم لمزيج من عدم اليقين والقدريّة التي يصعب تحملها، كأننا في أحد أعمال فريتز لانغ في الفترة الأميركية.
السيناريو من كتابة جوناثان أبرامز (في أول سيناريو سينمائي من كتابته)، يستخدم فيه أبرامز حلولاً ملائمة للقصة، سواء كانت إدراكات تأتي في الوقت المناسب أو تحولات وتقلبات تدفع الحبكة إلى الأمام. لكن لا يمكن لهذا السيناريو أن يظهر بهذه القوة بدون فنان يبلغ 94 عاماً، ويخرج فيلمه الأربعين.
صقل إيستوود أشكاله حتى وصل إلى درجة من الرصانة والاقتصاد السردي والفعالية التفسيرية، التي تترجم إلى أفضل تمثيل لمبادئ الفن السينمائي. لا تباه أو تأثيرات هنا، بل إنّ كل لقطة مصممة بدقة لتحقيق أكبر قدر من الوظيفة الموكلة إليها. لا يزال إيستوود يعرف كيف يحصل على أفضل قيمة بصرية من قصّة، أكان من خلال الظهور المتكرر لتمثال ثيميس، إلهة العدالة اليونانية، التي تراقب من دون أن تتمكن من رؤية (تضع عصابة على عينيها) معاناة البشر، أو تلك العملة المعدنية التي يلعب بها جاستن، والتي تركز على معركة الفرد ضد القوانين أو وهم المصادفة.
تجنب إيستوود الحلول التبسيطية، لأن العالم الحقيقي ليس كذلك، والتأكيد على صعوبة التصرف بأخلاق عندما تخاطر بحياتك الشخصية السعيدة. في «عضو المحلفين رقم 2»، أدوار «الخير» و«الشر» غير واضحة. وبهذا المعنى، تأتي الطريقة التي اختارها إيستوود لإنهاء فيلمه بارعة، فتسلط الضوء على فكرة أنّ لا نهايات سحرية، بل إنّ الناس يتصرفون كما يرون مناسباً.
في أحد أهم المشاهد، يقول جاستن «الحقيقة والعدالة لا تعينان دائماً الشيء نفسه»، وهذه المعضلة تمزقه، بل تمزق المشاهد أيضاً. «عضو المحلفين رقم 2» أكثر بكثير من المفاجأة المركزية المتمثلة في ذنب جاستن، كما لا يبرز بين أحدث أفلام إيستوود الاخراجية فحسب، بل هو تحفة سينمائية تحمل في جوهرها مجموعة أعماله الكاملة.
وبفضل الأداء التمثيلي الممتاز، وتقلباتها وحبكتها المتوترة، ومعضلاتها الأخلاقية المؤلمة، قد تكون خاتمةً عظيمة لمخرج وممثل أسطوري. ولكن ربما لا يكون الامر كذلك، لأنّه وفقاً للأخبار، يعمل إيستوود حالياً على فيلمه الحادي والأربعين.
اقرأ أيضا: إنّي أرى… وأسمع