أعلن أبناء عادل إمام اعتزاله التمثيل رسميًّا، ليقوما بإقرار حقيقة كنًا ندركها ضمنًا: الزعيم قام بتسليم عهدته إلى سلطات الفن، وأنهى خدمته بتسريح أكثر من مشرف بعد مسيرة مدهشة امتدت لستة عقود، حقق خلالها ما لم يحققه ممثل آخر في تاريخنا من شعبية ونجاح وتأثير في الرأي العام، وحشد لملايين المحبين، وآلاف الكارهين. والمدهش هو قدرته على أن يفخر بوجود كارهيه كما يسعد بمحبيه، فبعض الأشخاص والجماعات تُعد كراهيتهم تقديرًا.
اعتزل عادل إمام وابتعد بجسده، لكنه لم ولن يبعد أبدًا عن حياتنا اليومية التي تجاوز حضوره فيها كونه بطلًا لأفلام ومسلسلات ومسرحيات نحب مشاهدتها، إلى ما هو أكثر بكثير. فعادل إمام منذ عقود صار ظاهرة ثقافية حقيقية، تُمثل أقواله ونكاته وتعليقاته الساخرة معجمًا موازيًا يستخدمه المصريون -بل وكثير من العرب- في أحاديثهم العادية. ثم جاء الإنترنت ليصير أكبر مصدر للميمات memes، فيُضاف بُعدٌ آخر، شكلي وحركي، لتفاعلنا مع تراث عادل إمام.
اليوم، يمكن أن نقول باطمئنان إنه من العسير أن يمر يوم على أي منّا من دون أن يتعرض لأثر إمام الثقافي في حياته اليومية، في تعليق مصوّر يحمل وجهه يُعلق به شخص على موضوع ما، أو عبارة متداولة يستخدمها آخر لانتزاع ابتسامة من محدثيه، أو في أي موضع آخر يمكن تخيله. صار “الزعيم” جزءًا من ثقافة الجميع، بما في ذلك من لا يحبوه أو يناصبونه العداء. وهو قدر من النجاح النادر، يعيش فنانون حياتهم كلها يحلمون بما يقاربه.
لكن ما السر وراء عادل إمام؟ لماذا حقق هذا الرجل تحديدًا هذا النجاح الأسطوري؟
بالطبع لا توجد إجابة بسيطة للسؤال الذي يصلح لأن يكون موضعًا لدراسات متعمقة، في الفن والسياسة، والثقافة، وعلم النفس والاجتماع. لكن بالنسبة لي، ولو أردت أن أختصر محبتي له في سبب وحيد مُبسّط، ستكون إجابتي هي: ابتسامته.
بدأت هذه العلاقة من ملف نشرته مجلة “جود نيوز سينما” خلال عام 2006 أو 2007، يشمل قائمة لأحسن 50 ممثلًا وممثلة مصريين وفق رأي فريق المجلة. كتب وقتها محرر الملف (وهو إن لم تخني الذاكرة الناقد آنذاك والمؤلف لاحقًا الصديق وائل حمدي)، أنه إذا كان لكل ممثل أدوات يجيد استخدامها، فإن أداة عادل إمام الأبرز هي ابتسامته التي يوظفها بمهارة مدهشة، فهو الممثل القادر على أن يمنحك عشر ابتسامات مختلفة تحمل كلٌ منها شعورًا مغايرًا.
منذ قرأت هذا الوصف الذي أنار لي فجأة ما كانت أشعر به لكن لم أفكر فيه؛ صرت مفتونًا بابتسامات عادل إمام، أراقبها وأبحث عنها. أشاهد أفلامه مترقبًا اللحظة التي ستظهر فيها الابتسامة، وأحاول أن أفهمها وأعرف معناها وما تحمله من مشاعر. أصنفها بين ابتسامات انتصار وانكسار، سخرية ومرارة، ضعف وقوة، وغيرها من طيف الحالات التي عبّر عنها وجهه المنحوت بالتضاريس والتجاعيد منذ شبابه.
وفي هذا المقال، سأحاول رصد خمس ابتسامات لا تُنسى، رسمها عادل إمام على وجهه، فدخل من خلالها قلوبنا من دون استئذان.
الحياة تبتسم أخيرًا – الإنسان يعيش مرة واحدة
احتاج هاني لأن يذهب إلى آخر البلاد حتى يجد نفسه. معلم التاريخ الشاب، المقامر، الذي يُطرد من العاصمة بفضيحة بعدما ينام في فصله الدراسي بعدما ذهب إليه متأخرًا مخمورًا، بعد ليلة من لعب الورق خسر فيها كل ما يملك. تشبه موافقة هاني على الانتقال للعمل في مدينة السلّوم القبول بالغربة الأبدية، الهروب إلى أي مكان لا يمثل وجوده فيه فضيحة في حد ذاته.
غير أن الشاب يكتشف بعيدًا عند الحدود الغربية أنه ليس الهارب الوحيد، ثمّة هاربان آخران، فرّا إلى المدينة النائية لأسباب متباينة. أمل الطبيبة التي تهرب من شعورها بالذنب للتسبب في موت حبيبها، وبكري الخفير المختبئ من ثأر حكم عليه بالعيش كالفئران طيلة عمره. تجمع السلّوم الهاربين الثلاثة برباط بدأ بالضرورة وانتهى بالحب والألفة.
لكن قبل أن يعثر هاني على هذا الرباط اكتشف حقيقة مرّة: أنه لم يبتعد بما يكفي، وأن الوصم الذي تركه في القاهرة سبقه إلى السلّوم في خطاب يحذر ناظر المدرسة من سلوكه، وفي مدينة صغيرة يكفي أن يعرف الناظر ليعلم الجميع أن المعلم الجديد رجل سيئ السمعة. ليستمر شعوره باللفظ المجتمعي، وإساءة تفسير أي تصرف يقدم عليه مهما كان بريئًا.
قرب نهاية الفيلم، وبعدما يتغلب على خصمه الطبيب الفاسد، يذهب هاني إلى الناظر ليطلب إجازة كي يتزوج. يفهم الناظر أن العروس المرتقبة هي أمل، فيُقَابَل الطلب بكل الحب والاحتفاء، وكأنه أب سعيد بهداية ابنه الضال. لأول مرة يشعر هاني أن العالم قد سامحه، وأن الوصم قد توارى وراء حميمية قبول الطلب. على وجهه ترتسم ابتسامة صافية، هادئة، ابتسامة طفل وجد أخيرًا الأمان.
وحشتيني يا مشمش – الغول
استلهم عادل إمام مظهر شخصية عادل عيسى من صديقه الناقد سامي السلاموني، الساخر العدمي صاحب روح “دون كيخوته” محارب طواحين الهواء. عادل لا يهمه كثيرًا أن تكون ملابسه رثّة لا تليق بصحفي معروف، ولا أن يترك ذقنه نابتة بصورة تصرخ بعدم الاكتراث، لأنه يؤمن أن هذا العالم الملوث لا يستحق منه أكثر من هذا. لكنه وبرغم ازدرائه للعالم، لا يمكنه إلا أن يقول ما يؤمن به، ويدافع عن الضعيف بكل ما أوتي من حيلة.
يتلقى عادل أكبر عرض في حياته من رجل الأعمال فهمي الكاشف؛ رشوة ضخمة مقابل ألا يتسبب في سجن ابن الأخير، لكنه يرفض بشمم حتى بعدما أمعن الكاشف في توضيح قدر عظمته في مواجهة خصمه الصحفي البائس. يشعر بانتشاء يليق بمن أمسك بشرفه وقال كلمة حق لدى سلطان جائر. يُفتح باب المصعد لتظهر مشيرة، المذيعة الشهيرة التي كوّن عادل رابطًا إنسانيًا معها منعه من أن يصدق كونها عشيقة فهمي الكاشف. تخرج الشابة الجميلة ليستقبلها الكاشف بقبلة وهو يردد “وحشتيني يا مشمش”. مشيرة هي مشمش، لم يكذب من قال إنها عشيقته.
داخل المصعد يغلق عادل كفّه غضبًا، تتجمد ملامحه وهو يفكر فيما جرى، فجأة تنفجر ابتسامة على وجهه، واسعة لدرجة ظهور أسنانه بالكامل. ابتسامة تجتمع فيها المرارة بالفخر، والضعف بالازدراء. الفتاة التي استشعر فيها نقاءً اتضح أنها تنتمي لنفس العالم الفاسد، وهو وإن رفض بيع نفسه يزداد وحدةً واغترابًا. ابتسامة تبدأ فجأة وتنتهي فجأة ليُرسم على الوجه تجهم يُبشر بمسار الفيلم ومصير بطله.
شيطان بقلب حنون – طيور الظلام
بدأ فتحي نوفل الفيلم محاميًا فقيرًا ماهرًا وانتهى فاسدًا عملاقًا، وفي طريقه اكتشف أن الكل فاسدون عدا محسن. الجميع مستعدون للسقوط إذا عُرض عليهم السعر المناسب – بل أحيانًا بدون أية عروض- إلا صديقه القديم، الثوري المؤمن بالشعارات، القنوع الذي يرضى بالقليل ولا تغريه فرص الثروة والترقي التي قبلها بصدر رحب صديقا صباه: فتحي الذي صار رجل السلطة، وعليّ الذي غدا محاميًا للجماعات الدينية.
يحاول فتحي أكثر من مرة أن يدفع محسن لقبول مساعدته في إيجاد وظيفة ذات دخل كبير، وفي كل مرة يواجهه صديقه القديم بالرفض، ليقرر الرجل الذي صار كبيرًا أن يجبر صاحبه على القبول بنزع باقي الاختيارات، يُعطي أوامره بالتضييق عليه وإجباره على ترك وظيفته، ليكون في حاجة للقبول بأي مهنة طالما ستكفل له نفقات الأسرة.
يصل إلى منزل صديقه البسيط، يتعرف على أولاده الصغار، ويقدم له العرض الإجباري بوظيفة يقترب راتبها من عشرة أضعاف عمله السابق. حتى هذه اللحظة تتضارب التفسيرات داخلنا، بل حتى داخل فتحي نفسه: هل هو مجرد دعم لصديق قديم بدافع المحبة؟ أم هو رفض لوجود من يرفض نظرته للعالم أو يُظهر له الهاوية الأخلاقية التي يتردى فيها؟ أي محاولة لإفساد ما بقي من الشرفاء؟
بعدما يقتنع محسن أخيرًا ويقبل الوظيفة على سبيل التجربة، بل ويقتنع بسلامة نوايا صديقه، يطلب منه أن “يخللي باله من نفسه” فتنفرج ابتسامة حب صافية على وجه فتحي. ابتسامة هي الوحيدة من نوعها طوال زمن الفيلم، نعرف من خلالها أن حتى أقدر رجال السلطة تلاعبًا بالقانون لخدمة الباطل، يحتفظ في قلبه ببعض الحنان تجاه من يوقن أنه حقًا أشرف منه.
القلوب تتعارف – حب في الزنزانة
من المفارقة أن يحمل أحد أكثر الأفلام المصرية مأساوية واحدة من أعذب لحظات الفرح السينمائية في تاريخنا. لحظة اللقاء الأول بين السجينين صلاح وفايزة، اللذان أحبا بعضهما البعض خلال إشارة من شباك السجن بالمناديل الملونة، واتفقا على أن يضعا حبهما في اختبار ضخم: على قلوبهما أن تتعارف من دون أي حديث، في لقاء عابر بين السجناء والسجينات لا يستغرق سوى ثوان.
يمتاز “حب في الزنزانة” بغياب كامل للمشاهد التقديمية، يبدأ بحريق ضخم في إحدى البنايات، وقبل أن تمر أول خمس دقائق أو أن تنزل العناوين نشاهد البطل صلاح الذي لم نعرفه بعد يتلقى عرضًا مغريًا بالاعتراف بحرق البناية مقابل مكافأة لم يحلم بها. من ناحية، يلقينا المخرج محمد فاضل من اللحظة الأولى في مأزق البطل المفاجئ لنفكر في العرض بسرعة كما فكر فيه بسرعة، ومن ناحية أخرى يزرع فكرة مفادها أن صلاح يولد مع بدء الفيلم، مع وضعه بين عشية وضحاها في اختبار إنساني لم يطلبه أو يتخيل حدوثه في أسوأ كوابيسه.
لذلك كان من الطبيعي أن يتعامل مع دخول السجن بطريقة أي طفل يؤخذ من أمه، بالاكتئاب ورفض تصديق الوضع أو التعايش معه. إلا أن صلاح يبدأ في النضج واكتشاف بعض مواطن الجمال في بيئة السجن الخشنة، بدايةً من التعرف على صديقين أحدهما مزوّر والآخر قاتل محترف، ثم وقوعه في الحب عن بعد، مع طيف امرأة لا يرى منها سوى ذراع يرسم حركات في الهواء بمنديل أخضر.
يطيل المخرج في الانتقال بين الوجوه ليشعرنا بحيرة البطلين، وإمكانية ضياع الفرصة دون أن يتعارفا. وعندما تلتقي الأعين وتتآلف القلوب تبدأ ابتسامة بطيئة، تبدأ صغيرة ثم تأخذ في الاتساع تدريجيًا حتى تملًا الوجه. ابتسامة تحت عينين متسعتين لا تريدان إضاعة ثانية واحدة متاحة من دون التمعن في ملامح الحبيب. تقابلها ابتسامة مماثلة على وجه سعاد حسني تجعله أحد أفضل مشاهد الحب التي يمكن أن تراها في حياتك، دون كلمة أو لمسة.
مش مهم – اللعب مع الكبار
يمتلك حسن بهنسي بهلول علاقة مصرية بامتياز مع السلطة، فهو يخشاها ويحب أن يداعبها، يؤمن بأهميتها لكنه يريد أن يساعدها على طريقته، لأنه رغم كل شيء لا يأمن شرها وشر من فيها. لذلك فعندما يصل لطريقة يعلم من خلالها بعض الجرائم المخططة، يرغب في تأسيس علاقة خاصة مع أمن الدولة، يزودهم فيها بالمعلومات بدون الكشف عن مصدرها.
تستمر لعبة القط والفار طويلًا بين حسن ورجال الأمن، أو للدقة لعبة القط الأبيض والقط الأسود والفأر. الأبيض هو معتصم الألفي، الضابط المهذب الذي يؤمن بأن تحقيق الأمن هو الهدف الأسمى، ونقيضه الأسيوطي، العنيف الذي يتلذذ بانتزاع الاعترافات بأقسى الطرق. الفيلم كاريكاتوري الطابع مليء بالابتسامات متباينة المعاني. نتذكر منها ابتسامتين لا ابتسامة واحدة، لا تفصلهما على الشاشة أكثر من دقائق.
الأولى عندما يتمكن معتصم في اللحظة الأخيرة من إحباط عملية اغتيال سياسي لأنه الوحيد الذي صدّق حسن. ورغم ما فعلاه يجلس حسن في المقهى يستمع إلى مسؤول أمني يتفاخر في حديث تلفزيوني بأن إيقاف الاغتيال جاء نتيجة مراقبة دقيقة وعمل منظم. تبدو الدهشة على ملامح حسن الذي يعلم أن لولاه لكان اللاجئ السياسي ميتًا، قبل أن ترتسم على وجهه ابتسامة تسامح، عدم اكتراث ممزوج بالرضا، ويردد ببساطة “مش مهم”. فليس من الضروري أن يُنسب إليه الفضل طالما تمت إماطة الأذى.
الابتسامة الثانية أكثر تعقيدًا، تأتي بعدما يهينه الأسيوطي بقسوة، وينهال عليه بالصفعات كي يعترف بمصدر معلوماته. تترتب الأحداث بصورة تنتهي بحسن يحمل مسدسًا يصوبه نحو من أهانه. تكفيه لحظة انتقام وتشفي ليقتل ظالمه، وينهي معها حياته ومستقبل الضابط الشريف الذي يدعمه. يتردد أصبع حسن على الزناد ثم ينزل المسدس ويبتسم باستهانة واحتقار. ابتسامة مختلفة تمامًا عن سابقتها، محملة بشعور بالضرورة. حسن يعلم أن وجوده ومعتصم ضروري لحماية الأبرياء، أما الأسيوطي ومن مثله فهم عرض مؤقت، لا يستحق أن يضيع عمره من أجله.
كانت هذه مجرد نماذج، تعمدت فيها أن أتذكر مشاهد غير أيقونية، قد لا ينتبه لها الغالبية، حتى لو كانت ضمن أعمال ذائعة الصيت. يُستَثنى من ذلك مشهد “حب في الزنزانة” الشهير الذي كان من الصعب تجاهله. وهذا مجرد مدخل للتفكير في عادل إمام بصورة مختلفة قليلًا، وملاحظة ما امتلكه هذا النجم الشاهق من موهبة فريدة، تسير كتفًا بكتف مع حضوره وجماهيريته. ولعلنا في المستقبل نتوقف مجددًا لاكتشاف المزيد من ابتسامات الزعيم المطبوعة في قلوبنا.