يضمن «طفل الأم Mother’s Baby» للمخرجة النمساوية يوهانا مودير، المشارك في مسابقة الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان برلين السينمائي (13 – 23 فبراير) تجربة سينمائية مثيرة ومشوقة ومحيرة، تمتد لما يقارب الساعتين، وتحدث قطيعة مع الكثير من أفلام هذه النسخة التي تعتمد على الإطالة والتكرار. تقترح «مودير» أطروحة مضادة: مشاهد مكثّفة، فعّالة، تذهب إلى الهدف مباشرةً، ولا حاجة للكلام إلا عندما تجد اللغة البصرية نفسها أمام طريق مسدود. وبصراحة، بعد نحو أسبوع من «التعفّن» في الصالات، أمام أفلام متعبة تصل أحيانًا إلى حد الإزعاج، جاء الفيلم بمثابة هواء منعش على الـ«برليناله».
من دون خطوة ناقصة أو لحظة ملل أو لقطة لا نعرف مكانها من الإعراب، ترينا المخرجة إتقانها اللعب على أوتار التوتّر النفسي، وذلك من خلال عمل سينمائي يظلّ مشدودًا حتى اللحظة الأخيرة، بأسلوب يوازن بين الغموض والإثارة، مع التشديد على أن هدفها ليس عرض عضلات بل سرد قصّة.
الحبكة بسيطة: يوليا (ماري لونبرغر)، قائدة أوركسترا ناجحة وصلت وهي في الأربعين إلى ذروة عملها المهني والفنّي، لكن ينقصها شيء واحد: الأمومة. تريد طفلًا يملأ حياتها. بعد محاولات إنجاب فاشلة، تلجأ مع زوجها إلى مركز متخصّص في علاج الخصوبة، حيث تخضع لإجراءات دقيقة لتحقيق حلمها. عندما تضع مولودها تحت إشراف الطبيب المسؤول عن المركز، تتلقّى على الفور خبرًا صادمًا: طفلها يعاني من نقص في الأوكسيجين، فيُؤخذ منها قبل أن يُعاد إليها بعد ساعات. ماذا حصل خلال تلك الساعات؟ ليست الأم هي الوحيدة التي ستطرح على نفسها هذا السؤال، بل المُشاهد أيضًا… وبشدة!

منذ اللحظة الأولى، ستشعر يوليا بأن هناك شيئًا ليس على ما يرام. حدس الأم؟ ربما. في أي حال، سننجر معها في اعتقادها وتوجّسها. عوضًا عن الفرحة المنتظرة، يتسلّل إليها إحساس مرعب بأن الطفل الذي أُعيد إليها ليس طفلها. تتعاظم هذه الشكوك يومًا بعد يوم، لتتحوّل إلى هاجس يقلب حياتها رأسًا على عقب ويحوّلها إلى كابوس. لماذا لم يبكِ الطفل عند الولادة؟ هل ولد ميتًا؟ ما الذي جرى خلال الساعات التي فصلته عنها؟ هل استُبدل من دون علمها؟ تساؤلات مرعبة تتشابك في ذهن يوليا، وتنتقل تدريجًا إلينا، ممّا يجعلنا نعيش حالة من القلق المتصاعد، في انتظار كشف الحقيقة. هذا كله يمتص قدرتها على الشعور بالفرح. كيف يمكن الأم أن تشك في طفلها؟ هل هو مجرد اضطراب نفسي عابر، أم أن هناك سرًا أكبر يُخفيه الجميع عنها؟

هذه المنطقة الرمادية بين الواقع والهلوسة تجعل المُشاهد في حال من الترقّب الدائم، حيث يصبح كلّ تفصيل صغير دليلًا محتملًا على وجود خدعة ما. ومع كلّ مشهد، تتعقّد القصّة أكثر فأكثر، وتتصاعد مشاعر البطلة حتى تصل إلى نقطة الانفجار.
يتميّز «طفل الأم» بأسلوب بصري خاص بسينما شمال أوروبا، حيث لا دفء داخل الصورة، بل ألوان جليدية سرعان ما تمتد إلى الشخصيات، وتصوغ روابطها العميقة. هذه الأجواء تسيطر على كلّ شيء، مع اختيار واعٍ للإضاءة والألوان التي تعكس الروابط بين الشخصيات. يتعمّد الفيلم بناء التوتّر النفسي بشكل تدريجي، ممّا يزيد شعورنا بالضياع والارتباك. لافتة أيضاً الطريقة التي تتعامل بها المخرجة مع تصاعد هذا التوتّر، حيث ينساب الإحساس بالخوف تدريجًا من دون الحاجة إلى صدمات مفاجئة أو مشاهد صاخبة. الصورة تلعب دورًا في إبراز هذه الحالة، إذ تعتمد مودير على ديكورات محايدة تجسّد الاغتراب العاطفي الذي تعيشه البطلة. حتى الموسيقى التصويرية تتجنّب المبالغة، مكتفيةً بخلق نبض خفيّ يزيد الشعور بالقلق.
معلومة على الهامش: تجنّبت «مودير» تصوير السيارات، انطلاقًا من قناعتها بأن تأتي إلى الفيلم بلمسة قبح بصري. هذا دليل إضافي على أنها صاحبة رؤية، لا مجرد صانعة صور.
اللافت أيضًا أن العمل لا يقدّم إجابات حاسمة، بل يترك للمُشاهد حرية التأويل، ليبقى السؤال الأكبر معلّقاً حتى النهاية: هل الطفل حقيقي أم أن يوليا تعيش في فخ الأوهام؟

يلقي «طفل الأم» نظرة مختلفة على الأمومة، بعيدًا من الصورة المثالية التي كرّستها الأفلام التقليدية. هذا ما تقوله مودير في مقابلاتها، وهو قول يمكن ربطه بسهولة مع الفيلم عند المشاهدة. من خلال الإضاءة على التغييرات النفسية التي قد تعانيها المرأة بعد الولادة، ننخرط في تجربة إنسانية قد تكون أكثر تعقيدًا ممّا يُروى عادةً. يكفي ان الولادة تحصل من دون الصرخة التي نسمعها عادةً مع خروج الطفل.
هذا التناول الصادق للمسألة ليس غريبًا عن المخرجة التي استوحت بعض تفاصيل الفيلم من تجربتها الشخصية كأم. في النهاية، هذا ليس مجرد فيلم إثارة، بل رحلة نفسية غامضة تحفّز المُشاهد على التساؤل: إلى أي مدى يمكن الواقع أن يكون وهمًا؟ فمثلما قد يرتقي الإنجاب إلى ذروة تحقيق الذات عند الأم، من الممكن أن يغدو سجنًا نفسيًا محكمًا، خصوصًا عندما لا تكون مشاعر الحبّ والتواصل مع الطفل أمرًا بديهيًا.
اقرأ أيضا: «لو كان لدي أرجل لركلتك».. حين يصبح الانهيار طقسًا يوميًا