فاصلة

مراجعات

«طار فوق عش المجانين».. إعادة زيارة لفيلم استثنائي

Reading Time: 4 minutes

أحياناً تلعب المصادفات القدرية دورها في خلق واقع غير محسوب. هذا بالتحديد ما جرت وقائعه مع المخرج التشيكي “ميلوش فورمان” والممثل والمنتج الأمريكي “كيرك دوغلاس”، إذ أرسل الأخير رواية “أحدهم طار فوق عش طائر الوقواق” One flew over the cuckoo’s nest إلى الأول، الذي انتظر بصبر يُحسد عليه وصولها إليه، بينما كانت الجمارك التشيكية تعبث بصفحاتها.

وهكذا ترقب كل منهما رد الأخر لما يزيد عن عشر سنوات حتى تجدد اللقاء لاستكمال مراحل العمل. ليخرج الفيلم الذي حمل الاسم نفسه بالإنجليزي، واختار له الموزع العربي ترجمة دقيقة ذكية هي “طار فوق عش المجانين” إلى يستخدم اسم طائر الوقواق في الإنجليزية ليعبر أيضًا عن الجنون. ولكن، هل كانت الرواية جديرة بكل هذا الصبر؟

 
عرض الفيلم عالمياً للمرة الأولى عام 1975، وحقق نجاحاً توجه بحصد خمس جوائز أوسكار عن التمثيل الرئيسي والمساعد والإخراج، إضافة إلى جائزة أفضل فيلم. ويحتفل هذا العام بإتمامه اليوبيل الذهبي على عرضه الأول. 

تستند أحداث الفيلم إلى رواية تحمل الاسم نفسه للكاتب “كين كيسي”، وتدور فصولها في نطاق مصحة عقلية، لم تخرج كاميرا ميلوش فورمان في نسخة الرواية السينمائية عنها في محاولة للالتزام بالوحدة المكانية.

المصحة العقلية أقرب في بنيانها إلى السجن منها إلى المشفى، فالتعليمات تتردد أصدائها عَبر الإذاعة الداخلية، في استعارة وإعادة تدوير لفكرة الأخ الأكبر التي حضر ظلها الجاثم على الأدب والسينما منذ قدمها جورج أورويل في روايته 1984. أما الأبطال فهم الأطباء وأطقم تمريض، في مواجهة المرضى الذين يُعانون الألم الممزوج بالوحدة، وبين هذا العالم وذاك، تدور عجلة السرد، وتندفع نحو ذروتها المأمولة.

 "طار فوق عش المجانين".. إعادة زيارة لفيلم استثنائي
One Flew Over the Cuckoo’s Nest (1975)

قصة قد تبدو مكررة وسبق استهلاك أفكارها، لكن اختلافها وقوتها يكمنان في زاوية التناول والتعبير عنها، وهو ما يُضفي قيمة مضاعفة على فيلمنا الذي اختار البيئة العامة لأحداثه مشفى لعلاج الأمراض العصبية، بما ينطوي على تأويلات عدة، يُمكن إحالتها إلى ما هو أعمق، عن العلاقة المعقدة والحساسة بين الحاكم والمحكوم.

يخلق السيناريو قوسين تدور بينهما أحداث الفيلم ينفتح القوس الأول بلقطة استهلالية كاشفة عن المروج الخضراء المُحيطة بالمصحة العقلية، التي يصل إليها البطل ماكميرفي (جاك نيكلسون) لتحديد مدى سلامة قواه العقلية، وينغلق الثاني عند هروب المريض الهندي من أسر تلك الإقامة الجبرية إلى الغابات القريبة من المشفى، وبين هذين القوسين، تدور ماكينة السرد.

One Flew Over the Cuckoo's Nest (1975)
One Flew Over the Cuckoo’s Nest (1975)

 تقوم أركان السرد في “طار فوق عش المجانين” على الثنائيات المتضادة التي تُغلف باطن الحكاية. ماكميرفي الذي يُثير دهشته خنوع المرضى للسلطات اللا محدودة لإدارة المصحة، ويعمل دون كلل على بث روح الثورة ضد تلك القيود اللامرئية التي تحكم نمط الحياة بين تلك الجدران، وينتهي صريعا بعد أن انتصر عليه النظام.

وهنا يمكن القول بأن النسيج العام، تقوم خيوطه على ثنائية الحرية والقهر، البطل القادم من العالم الخارجي الذي لا تزال روحه مُعبأة ببعض من الإحساس بالحياة، بينما القابعون في الداخل، نضب إحساسهم بذواتهم، ليبدوا في مجملهم كالدُمي في أيدي مالكيها. 

ومن هذا التضاد تتدفق الأحداث وتتوالد بإندفاع متسارع الإيقاع، قوامها الاحتكاك والنزاع بين الحرية والخضوع، ومن ثم تتضح أبجديات الصراع الدرامي، والتي لا تخرج حروفها عن الحق في الحياة، وتحقيق الحرية الكاملة، في مقابل تعنت الإدارة، وتشبثها بإحكام قبضتها الحديدية، لتبدو الزيارة المؤقتة لبطلنا، قربان للحرية وعامل مُحفز، يُساهم في تصاعد الأوضاع الساكنة، وتحويلها من الخمول المستكين، إلى ذروة الاشتعال. 

 "طار فوق عش المجانين".. إعادة زيارة لفيلم استثنائي
One Flew Over the Cuckoo’s Nest (1975)

لا تقف تلك التضادات الدرامية عند الحدود سالفة الذكر فحسب، لكن يتم تطبيق هذه التحليلات النظرية في واقع عملي، ينشأ تلقائياً عبر خلق ندية بين الشخصيات وبعضها البعض. 

وكأننا أمام رقعة شطرنج، يتصارع أطرافها على الاستحواذ على ساحة اللعب، يُطالعنا ماكميرفي الثائر المُنادي بالحرية، في مقابل الممرضة “رادشيت” (لويز فليتشر)، كل منهما يسعى إلى توطين أسلوبه وبث أفكاره بين قطيع المرضى، الذين يبدون للمشاهد وكأنهم لا يُدركون من أمرهم شيئاً. 

فإذا كانت السلطة المُمثلة في ديكتاتورية الممرضة، ترى في إزاحة هؤلاء المرضى نحو الهامش إعلاءً لشأنهم الصحي، فإن ماكميرفي بإندفاعه وتهوره يُثبت خطأ هذه الرؤية، فالاشتباك مع أمواج الحياة هو العلاج الفعال، وهذا ما يرغب الفيلم في قوله والتعبير عنه. وهنا تُدرك الممرضة مكمن خطورة خصمها، لتُصبغ العلاقة بينهما بألوان صراعات السلطة والتوابع بكل ما تتضمنه من إحالات عن العلاقة المأزومة بين الثائر والحاكم، وكيف يُساهم كل منهما في ممارسة دوره المرسوم له سلفا،ً والذي يُمكن تلخيصه في العمل الدؤوب على إزاحة سلطان الأخر عن المشهد، حتى يمتلك أحدهما مفاتيح الأمور، فالتعنت السلطوي لا يقبل سوى بذاته. 

 "طار فوق عش المجانين".. إعادة زيارة لفيلم استثنائي
One Flew Over the Cuckoo’s Nest (1975)

نحن أمام حكاية مباشرة وجلية المضمون رغم تعدد مستويات القراءة، وبالتالي لا يلجأ ميلوش فورمان إلى استعراض عضلاته الفنية في إعادة تقديمها للسينما، بل يجنح إلى التقليدية التي لا تخلو من حِرفية وإتقان أهلاه لأن يترشح للأوسكار ثلاث مرات ويفوز بها مرتين، منهما جائزة افضل مخرج عن فيلمنا هذا الذي جنح فيه فورمان إلى التركيز على حُسن إدارة عناصر التمثيل، وكذلك اللجوء إلى أحجام اللقطات المتوسطة التي تُسهب في وصف العالم السردي وتحضُ على تأمل مفرداته المعقدة. 

وفي إطار متقارب، يقول ميلوش فورمان في معرض حديثه عن الفيلم “بالنسبة لي لم تكن القصة أدباً فحسب، بل كانت حياة حقيقية، مثلما كانت حياتي في تشيكوسلوفاكيا”.

وما يُنحت من صخرة الواقع، يدوم أثره ولا يزول. 

اقرأ أيضا: «كان» 2025: «مهمّة مستحيلة» ملحمة الأكشن المستمرّة

شارك هذا المنشور

أضف تعليق