فاصلة

مراجعات

صندانس 2025: «وين ياخدنا الريح».. صوت جديد في السينما التونسية

Reading Time: 5 minutes

ما الذي يميز مرحلة الشباب في عمر البشر عن أي مرحلة أخرى؟ الإجابة هي الخيال، ففي عمر الشباب يحلم الإنسان بمستقبل أوسع من حدود عالمه. فماذا لو كان كل ما يحيط بالمرء يدفعه دفعًا نحو خنق خياله ووأد أحلامه، والارتضاء بحياة خاملة، تعيسة، يستسلم الشاب فيها لقيود طبقته ومجتمعه ونظامه السياسي؟ فمن يوافق على تلك الصفقة الخاسرة ومن يتمرد عليها؟

الخيال والتمرد هما الموضوع الرئيسي لـ «وين ياخدنا الريح»، الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرجة التونسية أمل القلاتي، والعمل العربي الوحيد المتنافس في مسابقة الأفلام الروائية الدولية في مهرجان صندانس السينمائي، المقام حاليًا في مدينتي بارك سيتي وسولت ليك سيتي بولاية يوتاه الأمريكية.

فيلم «وين ياخدنا الريح»
فيلم «وين ياخدنا الريح»

بطلان وحلم بعيد

مهدي شاب مسالم، تخرج من الجامعة بدرجة في تكنولوجيا المعلومات، لكنه يبحث بلا طائل عن وظيفة تلائم مؤهله العلمي، بينما يعاني من ضغوط والدته التي ضحت كثيًرا من أجل تعليمه، وكانت تتوقع أن يتمكن بمجرد تخرجه من دعم الأسرة كشقيقه الذي لم يكمل تعليمه. لكن الوجه الآخر لمهدي هو كونه رسامًا موهوبًا، يجسد خياله على الورق لوحات مذهلة في جمالها وجرأتها، لكن لا يبدو أحد مهتم بموهبته هذه سوى صديقة عمره عليسة.

عليسة تصغره سنًا بعدة سنوات، لم تنه دراستها بعد، تربت معه بحكم الجيرة، وكانت تعيش حياة جيدة حتى توفي والدها النجّار فدخلت والدتها حالة نفسية مُعطِّلة جعلت من عليسة الشخص الأكثر حكمة وتحملًا للمسؤولية في الأسرة التي تضم طفلة صغيرة لا تزال في حاجة لرعاية. عليسة لا تحمل ظاهريًا موهبة واضحة مثل مهدي، لكنه ذات خيال جامح، تساعدها الصور التي تتخيلها أن تتغلب على رتابة حياتها وما تعيشه من مواقف مملة.

يشعر مهدي وعليسة بضيق عالمهما، وبالأفق المحدود لبقائهما في بلاد تعيش واقعًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا عسيرًا. يحلمان بفرصة للسفر إلى أوروبا وبدء حياة هناك، لكن لا يبدو أن هناك أي احتمالية قريبة لإيجاد تلك الفرصة، حتى اليوم التي تعثر فيه عليسة على الحل: إعلان مسابقة فنية في جزيرة جربة، يحصل الفائز فيها على منحة للإقامة في العاصمة الألمانية برلين لمدة ستة أشهر، فتراها فرصة مثالية لأن يتقدم مهدي للمسابقة ويفوز بها، ثم يذهب إلى أوروبا فيتزوجها ويأخذها معه.

وبسبب الاختلاف بين شخصيتيهما، فهو مسالم لا يرغب في دخول أي مشكلة، وهي جريئة تحب أخذ المبادرة، ترتب عليسة كل شيء، لتقود مهدي في رحلة بسيارة مسروقة من تونس العاصمة حتى جربة، رحلة يعيدان فيها نظرتهما لنفسيهما وللعالم، ويوضعون خلالها في سلسلة من المواجهات المتتالية التي تجعلهم يكتشفون جوانبًا من شخصيتهما كانت في حاجة لأن توضع على المحك حتى يتمكنا منه معرفتها.

أفضل العناصر وأغربها

ينقسم «وين ياخدنا الريح» إلى جزئين: الأول تقديمي في العاصمة تونس نعرف من خلاله الشخصيات وعالمهما والفرصة التي وجداها، والثاني هو الرحلة نفسها، التي ينقلب فيها العمل إلى فيلم طريق Road Movie ينتقل فيه البطلان من موقف لآخر، وفي كل جزء من الاثنين نلمس توازي عناصر الجاذبية والعثرات في هذا الفيلم المختلف عن أغلب الأفلام التونسية التي شاهدناها خلال السنوات السابقة.

أفضل ما في الجزئين، وفي الفيلم بشكل عام، هو إجادة المخرجة اختيار بطليها. شاهدنا سليم بكار من قبل في «أطياف» لمهدي هميلي لكنه يظهر هنا في صورة مختلفة كليًا، لفتى موهوب لكنه هادئ وحالم ويميل للمحافظة، بكار يجسد الدور برهافة وجاذبية لا تنافسه فيها سوى آية بالأغا، التي أراها على الشاشة الكبيرة للمرة الأولى، والتي تُقدم أداءً استثنائيًا، بحضور واضح وفهم لطبيعة الشخصية وتعقدها. عليسة شخصية أكثر ثراءً من مهدي، بظروفها الأصعب وعلاقتها المتوترة بأقرب الناس لها، باندفاعها الذي يقودها للمشكلات، وبهويتها الجنسية التي تكتشفها خلال الرحلة في واحد من المشاهد المفاجئة بحق، مفاجأة سارة تأتي من خارج التوقعات الدرامية التي تقول بأن حكاية كهذه تنتهي في الأغلب باكتشاف مهدي وعليسة أنهما يحبان بعضهما البعض.

فيلم «وين ياخدنا الريح»
فيلم «وين ياخدنا الريح»

إلا أن من الاختيارات المُحيرة في سيناريو «وين ياخدنا الريح»، وأقول محيرة لا سيئة، هو قرار المخرجة بأن تكون عليسة هي من تحمل خيالًا واسعًا يتجسد في مشاهد أحلام يقظة تخرج فيها من واقعها. هذا الخيال يبدو أقرب لشخصية فنان مثل مهدي، ولعل المخرجة اختارت أن تهدي التفصيلة لشخصية عليسة للخروج من فخ النمطية والتوقعات. لكن، حتى لو كان هذا صحيحًا، ولو كانت الأحلام وسيلة تتجاوز عليسة بها صعوبات يومها، فهذا يخلق ثغرة يصعب تفسيرهما.

لماذا تُخفي عليسة هذه الأحلام عن مهدي، أقرب الناس لها والذي يعتمد جانب كبير من انبهارها به على موهبته وخياله؟ عليسة يُمكن أن تُخفي عالمها السري عن كل البشر، لكن ليس على مهدي. لاحظ أنها تتعمد أن تنفي كليًا امتلاكها أي موهبة في كل مناسبة ممكنة، حتى في المرات التي يتحدث فيها مهدي عن حبها القديم للأشغال الخشبية قبل وفاة والدها، تصمم على تجاهل الأمر ونفيّه كليًا. يبقى هذا الاختيار أحد نقاط التحفظ على الحكاية نظرًا لأننا لم نفهم دوافعه حتى نهاية الفيلم.

بين عالمين وأسلوبين

تُقسم أمل القلاتي الناس في فيلمها إلى مجموعتين: مهدي وعليسة، والآخرين، وتتعامل مع كل مجموعة بطريقة مختلفة عن الأخرى. يمنحنا الفيلم كل ما يكفي من الوقت والأحداث لنعرف كل شيء عن البطلين، نراهما من أول لآخر دقيقة، نفهم نقاط قوتهما وضعفهما وتعقد الصداقة التي تجمعهما. البطلان يُمثلان بشكلٍ ما نموذجًا مُصغرًا لأزمة جيلهما الذي يمكن أن نسميه أطفال الربيع العربي، من لم يعيشوا ما قبل 2011 ولم يثوروا على الأوضاع السابقة، لكن حُكم عليهم أن يعيشوا طيلة أعمارهم تحت سحابة الإحباط العام المسيطر على كل ما في البلاد جرّاء فشل تلك الثورات. جيل كان أصغر من أن يعيش النشوة فتفتح وعيه على الخذلان.

المدهش إنه برغم أن البطلان يُمثلان جيلهما بالفعل، لكن المخرجة تنجح في ألا تقدمهما أبدًا كرموز ولو للحظات. لا تسقط معهما أبدًا في فخ الرمزية أو تجعل أفكار وتصرفات أيّا منهما تحمل أكثر من كونها اختيارات تلك الشخصية تحديدًا، لا ما تمثله في السياق التاريخي أو السياسي أو الاجتماعي. بل إنهما لا يمثلان حتى أي ثقافة فرعية، فمهدي يرسم لكنه لا يعيش حياة الفنانين الشبان، وعليسة تحلم بالسفر لكنها لا تنجح في نطق كلمات فرنسية بسيطة بطريقة صحيحة. باختصار، هما مهدي وعليسة فحسب، وهو نجاح يستحق التحيّة بالتأكيد.

على النقيض تمامًا يأتي تعامل الفيلم مع كافة الشخصيات الأخرى، التي تحضر في الحكاية لتُمثل قيمة دلالية مباشرة: تعنت البيروقراطية الحكومية التي تغلق الأبواب في وجه الشباب/ أصحاب المال المتفرنجين المنقطعين عن واقع بلادهم/ سكان الضواحي الذين يقودهم الجهل والفقر إلى البلطجة على الآخرين باسم الدين/ الشرطة التي تفرض وصاية أخلاقية على المواطنين بدلًا من تطبيق القانون/ وسماسرة الفنون الذين يملكون مفاتيح أبواب نجاح وشهرة لا يستحقون التحكم فيها.

المخرجة التونسية أمل القلاتي
المخرجة التونسية أمل القلاتي

إذا نظرنا لكل شخصية يقابلها بطلانا على مدار رحلتهما، سنجد الأغلبية الساحقة منها تنتمي لهذه النوعية من الشخصية الرمز، التي توضع في ذلك المكان وتتصرف بتلك الطريقة فقط لتعرض أثر المجموعة البشرية التي تمثلها على حياة أبطالنا وجيلهما. ظهور كاريكاتوري لا يحاول التعمق في أي من تلك الشخصيات (الي يجسدها في أغلب الحالات ممثلون كبار كسندس بلحسن ومحمد قريع وسوسن معالج)، بل يتعمد إظهارهم بأحادية ربما يكون مصدرها هو كونها رؤية البطلين لهما. لا يراهما مهدي وعليسة بشرًا لديهم تعقد درامي وإنما نماذج نمطية تقف في طريقهم.

ربما يكون ذلك تفسيرًا مقبولًا على المستوى الفكري، لكنه عمليًا أنتج وضعًا غير معتاد: عندما نشاهد مهدي وعليسة وحدهما، نستمتع بفيلم إنساني فريد يمس القلوب ويدفعنا للوقوع في حبهما، وبمجرد ظهور شخصيات أخرى يتحول الأمر فيغدو أقرب لمسرحيات الجامعات وحكايات الأدب الساخر، مواجهة بين بشر وصورة نمطية، وهو نوع من المواجهات قد ينتج بعض الطرافة لكنه بالتأكيد لا يحمل صدق وحميمية مشاهد البطلين معًا.

وفي النهاية

تسير رحلة «وين ياخدنا الريح» كما يشير العنوان بالضبط، من موقف لآخر حسب الظروف التي تدفع الشابين نحو هذا الموقف أو تلك المواجهة، نقع في حب بطلينا وأداء آية بالأغا وسليم بكار، وكذلك في حس الطزاجة والرغبة في اللعب الذي تُبديه المخرجة أمل القلاتي، نرتبك قليلًا حول أحلام عليسة، يعجبنا بعض المواجهات الكاريكاتورية ولا يحقق بعضها الآخر الأثر نفسه، لكنه يبقى فيلمًا ممتعًا، يستحق المشاهدة والتدبر، ويُبشر بموهبة مخرجة واعدة وممثلين سيصيران نجومًا للسينما التونسية.

اقرأ أيضا: صندانس 2025: «اللي باقي منك».. الذاكرة والملحمة والمعضلة الأخلاقية في أحد أفلام شيرين دعيبس

شارك هذا المنشور

أضف تعليق