فاصلة

مراجعات

«صراط».. السينما كما الحياة رحلة حسّية

Reading Time: 4 minutes

يسعى أغلب صناع السينما في العالم للعثور على حكايات جديدة وصادقة، تعبر عن أفكارهم ومشاعرهم، وتضيف شيئًا لخبرة المُشاهد. لكن قلة قليلة منهم هم من لا يزالوا يطاردون ما هو أكثر، فيحاولون التقدم بالوسيط السينمائي نفسه، عبر تقديم تجربة مشاهدة تعد في حد ذاتها جزئَا من الفيلم، لا يمكن فصل العناصر الدرامية والبصرية المعتادة عنها. إلى هذه القائمة المحدودة ينتمي أوليفر لاكس، الإسباني الفرنسي الذي أتى لنا مبكرًا بأول التحف السينمائية الكبرى في كان 78.

«صراط Sirat» هو اسم فيلمه الجديد، والذي يكمل به ثلاثية شديدة الخصوصية بدأها بفيلم «ميموزا» عام 2016، ثم «نار سوف تأتي Fire Will Come» عام 2019، قبل أن ينهيها بالفيلم الجديد الذي يتماشى عنوانه المستوحى من الثقافة الإسلامية مع كل تفصيلة فيه. فإذا كان الصراط هو الجسر فوق الجحيم، الذي وضعه الله ليسير عليه كل البشر، فيسقط منهم من يسقط، ويطول طريق البعض، حتى بلوغ الغاية بالوصول للفردوس على الجانب الآخر، فإن هذه الفكرة المجردة، الحسّية، يمكن اعتبارها مُرتكزًا لرحلة أبطال «صراط» غير الاعتيادية.

في قلب الصحراء

لا يترك لاكس وقتًا للتمهيد أو تأسيس السياق، يلقينا منذ اللحظة الأولى داخل عالم أبطال فيلمه الخاص جدًا: عدد هائل من السماعات ومكبرات الصوت، عتيقة الطراز لكنها قادرة على إحداث أكبر قدر ممكن من الصخب. منصوبة في قلب صحراء شاسعة في المغرب، وعلى دويها تتراقص أجساد متلاصقة لأشخاص يصعب تمييز أصولهم العرقية، بعضهم أوروبيين وبعضهم محليين، تذوب الفروق بينهم في ظل الملابس والاكسسوارات المتشابهة، المخدرات التي تضع الكل في حالة مزاجية ملائمة للرقص الصاخب، والأجواء الترابية الحارة التي سرعان ما تلغي الفروق الفردية وتحوّل كل فرد نسخة من الآخر: كتلة ضخمة راقصة لا يمكن معها إلا أن تتساءل عمّا جاء بكل هؤلاء إلى هذا المكان، سؤال لا تعرف إجابته أبدًا وإن كان يمكن تخيلها.

ثقافة مضادة counterculture مثالية، لأناس تركوا العالم للاستمتاع بالموسيقى والصحراء والخيال. غير أن المغامرة تبدأ عندما يختل توازن عالمهم الموازي بحدثين متبايني القيمة. أولهما صغير: رجل إسباني وابنه، يصلان إلى موقع الحفل حاملين مئات الصور المطبوعة لفتاة خرجت إلى حفل مماثل قبل شهور وانقطع الاتصال عنها، يدوران بين الحضور يبحثان عمّن قابلها. أما الحدث الثاني الأكبر فهو اندلاع حرب عالمية كبرى، لا ينشغل الفيلم كثيرًا بتفسيرها أو حتى تحديد أطرافها. فقط منحنا المعلومات المهمة: ثمّة حرب اندلعت، وعلى جميع الأوروبيين المغادرة فورًا إلى بلادهم.

«صراط».. السينما كما الحياة رحلة حسّية
Sirât (2025)

لو كنا بصدد أحد المهرجانات الموسيقية الدولية الأنيقة التي يرد حضورها بطائرات فاخرة ولا يتوقفون عن التقاط صور السيلفي، سيكون الرعب والمسارعة في الهرب هو رد الفعل الطبيعي. أما بالنسبة لأعضاء الثقافة المضادة فالأمر مختلف. لا أحد يريد مغادرة المغرب، لا أحد يريد أن تتوقف الموسيقى، لا أحد يرغب في ترك الرحلة في منتصفها، والنتيجة؟ رحلة هروب من السلطات داخل الصحراء بشاحنتين وسيارة أصغر، تضم ثلاثة رجال وامرأتين أشبه بالأشباح، وأب مكلوم يتنقل مع ابنه، وكلبين أبيضين اختار أحدهما مصادقة الصبي والثاني بقى مع عشاق الصخب.

«صراط».. السينما كما الحياة رحلة حسّية
Sirât (2025)

من الحكاية إلى الرحلة

إلى هنا تنتهي حكاية الفيلم، والتي لا تستغرق ما يزيد عن ربع ساعة، أما باقي الساعتين فما هو إلا اندفاع دون تراجع في تلك الرحلة الغرائبية بامتياز، سواء في المزيج البشري والحيواني والميكانيكي غير المتجانس، أو في الهدف الذي يبدو أشبه بالوهم: بلوغ موقع حفل غنائي في قلب حرب عالمية، أو في تطورات العلاقة بين الشخصيات وفقًا لما يخوضونه من عقبات في طريقهم.

وكما سيحدث للبشر على الصراط في نهاية العالم وفق الثقافة الإسلامية، يمكننا توقع ماذا سيجري للشخصيات التي لا نحرق أي أحداث إذا ما قلنا أن بعضهم سينجو وبعضهم سيسقط، ليس فقط لأن العنوان الذي اختاره لاكس يُبشّر بتلك السيرورة، ولكن بالأساس لأننا أمام فيلم غير صالح للحرق أو التخليص، فيلم قصته كاملة تقع في أول ربع ساعة ثم تتركك في خضم رحلة حسّية، أبطالها الأساسيين مدير التصوير ماورو هيرشي والمؤلف الموسيقي كانغدينغ راي، اللذان يمنحا أوليفر لاكس تجسيدًا سمعيًا بصريًا مدهشًا لأفكار وجودية بحجم رحلة الإنسان من الحياة إلى القيامة.

الصورة تأخذك إلى قلب الصحراء المغربية، بتقلباتها التي تنتقل بين الوداعة والوحشية في ثوان، والموسيقى تحوّلك عضوًا في فريق الرحلة، مخدرًا بفعل الإيقاع الذي يدفعك للاستمرار دون أدنى تفكير في التوقف والتراجع مهما حل بك من أهوال. هل يذكرك الوصف بشيء؟ ربما برحلتنا في الحياة التي تكاد لعنتنا فيها تتلخص في كوننا محكومين بالمُضي للأمام بلا توقف أو رجعة، رغم علمنا أننا سنصل حتمًا نحو الفناء.

Sirât (2025)
Sirât (2025)

ليس للشاشات الصغيرة

يمتزج على الشاشة الصوت الآسر مع تعبير الصورة عن الحرارة الممزوجة قطرات العرق وملمس حبات الرمل على الجلد. لا نبالغ عندما نقول أن الفيلم يجعلنا نشعر بهذه الأمور التي تبدو منطقيًا عصيّة على النقل إلى الشاشة. لكن المخرج الموهوب يفعلها بطريقة ما. الأمر الذي يجعل «صراط» فيلمًا صالحًا للمشاهدة على شاشة كبيرة وبنظام صوتي لائق فقط، ربما سيندهش من يشاهده بعد شهور على شاشة حاسب آلي من التقييمات الإيجابية التي نالها، وستكون الدهشة في محلها لأنه بالفعل فيلم مصمم لظروف مشاهدة مثالية.

طبيعة الفيلم الأشبه برحلة تحت تأثير المخدر trip تمنحه أيضًا طبيعة خلافية، فإن اندمجت مع الرحلة استمتعت بكافة تفاصيلها، وإن لم تلجها ستجده في الأغلب عملًا مملًا خاليًا من المعنى. الأمر الذي يفسر الانقسام الحاد في التقييمات النقدية له بين مغرم وكاره، دون تقييمات وسيطة. لكن بغض النظر عن التقييمات، يظل «صراط» نهاية مثالية لثلاثية خاصة، صانعها يعرف جيدًا أن السينما تشبه الحياة، كلاهما رحلة حسّية.

اقرأ أيضا: كل ما تريد معرفته عن أفلام مسابقة كان 78

شارك هذا المنشور

أضف تعليق