عندما تجلس أمامه وهو يتحدث بصوت خفيض مع قليل من اللعثمة وخجل طفل قلما يتواصل بصريًا مع الجمهور الكبير الذي جاء لحضور لقائه الأخير في مهرجان القاهرة السينمائي، وهو يتحدث عن وقوعه في حب السينما وهو في عمر السبع سنوات ووقوعه في غرام فيلم «2001: أوديسة الفضاء» لستانلي كوبريك، لا تصدق أن هذا هو المخرج الذي صنع أكثر الأفلام عنفًا وقسوة في القرن الحادي والعشرين، والتي تعد تجربة مشاهدتها تحديًا حقيقيًا لقوة القلب وصلابة الأعصاب.
من يستطيع أن يتخطى صدمة مشهد اغتصاب مونيكا بيلوتشي الذي يمتد عشر دقائق ثم تحطيم وجهها، أو متابعة مجموعة من الراقصين وهم ينهارون تدريجيًا بفعل المخدر بينما تتحرك الكاميرا باضطراب جنوني قد يصيبك بالغثيان، أو الرعب النفسي الذي يحدثه مشاهدة عجوزين يحتضران تدريجيًا بفعل أمراض الشيخوخة.
«أريد أن أصنع أفلامًا من الدم، والسائل المنوي، والدموع. هذا هو أصل الحياة». تأتي هذه العبارة على لسان مورفي بطل فيلم «حب» وهو يتحدث مع حبيبته عن نوع الأفلام التي يريد صنعها كمخرج شاب، ويبدو أن هذه هي قناعة غاسبار نوي أيضًا وتصوره الواعي لنوع السينما التي يقدمها، فأفلامه السبعة الطويلة تتمحور حول هذه العناصر الثلاث وتصور حضورها المادي الصريح على الشاشة.
جميعها تروي حكايات حزينة عن الموت والفقد والألم والضياع، مع اختلاف التفاصيل والأسباب التي أدت إلى ذلك، وأغلبها يصور الجنس في شكله الصريح الفج والعنيف أحيانًا، حتى في أكثر أفلامه رومانسية، ورغم أن الدماء ليست عنصرًا حاضرًا في جميع أفلامه، لكن عندما تتطلبها القصة فيقدمها بوفرة وعنف صادم قد لا يتحمل البعض مشاهدته مثلما فعل في فيلم «غير قابل للعكس».
يدرك نوي مدى عنف الطريقة التي يحكي بها قصصه، لذا يميل غالبًا إلى تنبيه المشاهدين بأن ما هو آتٍ قد لا تتحمله أعصاب البعض، فيطالبهم بمغادرة القاعة إذا لم يستطيعوا الصمود كما في فيلم «أقف وحيدًا»، أو يعرض تترات النهاية في منتصف الفيلم كما في فيلم «ذروة».
يستهدف نوي من وراء تقديم حكاياته في شكلها القاسي والخام، دون أي مواربة أو تجميل، إسقاط القناع الرقيق الذي تتزين به النفس البشرية وتخفي خلفه حقيقتها وانحطاطها الإنساني وهشاشة مُثلها، عندما تصطدم بنقاط ضعفها التي تعريها وتتركها في مواجهة غرائزها ورغباتها المكبوتة، وغالبًا ما تكون المخدرات هي العامل المساعد والمحفز لهذه التعرية، مثلما يحدث في فيلم «ذروة».
يمتلك نوي لغة سينمائية مميزة تعد علامة مسجلة توسم أعماله بطابع سردي وبصري يخصه وحده، بدءًا من أفيشات الأفلام التي تتميز بلونها الأحمر الصارخ، أو تداخله مع البرتقالي، وهي أيضًا الألوان التي يستخدمها بوفرة في الإضاءة وملابس الشخصيات والأماكن، مرورًا باستخدام المونولوج الداخلي للبطل، وزاوية التصوير والإضاءة النيون الصارخة، وصولًا إلى تيترات الفيلم التي تكتب بخط مميز. في هذا المقال نستعرض بعض سمات أسلوب نوي السينمائي التي تدمغ عالمه بطابع فريد وتمنحه مكانًا خاص به وحده.
أبطال ذوي أقنعة
أبطال غاسبار نوي هم أشخاص أنانيون يعانون دائمًا من نتائج اختياراتهم وأخطائهم السابقة، يمتلكون أسرارًا دفينة، أحيانًا يكون هوسًا جنسيًا، أو جانبًا مظلمًا يحاولون إخفاءه أو لا يدركون وجوده لأنهم منشغلون بالشفقة على الذات أو البحث عن مشجب يعلقون عليه خساراتهم وانكساراتهم، وأحيانًا ما يملكون تاريخًا أسريًا مأساويًا، يجدونه مبررًا لأفعالهم الدنيئة ورغباتهم المكبوتة.
الجزار في فيلم «أقف وحيدًا» هو شخصية نرجسية بامتياز يسرد في بداية الفيلم خلفيته الأسرية المأساوية، قتل الأب وهجر الأم له وهو طفل صغير، ثم هجر المرأة التي حملت في طفلته خطئًا له وللطفلة التي رباها وحيدًا. ورغم مرارته وغضبه من الهجر صغيرًا وكبيرًا، وتفاخره بصموده وقدرته على تخطي ظروفه الصعبة وحده، إلا إنه يكرر تاريخه المأساوي مع ابنته ويهجرها سعيًا وراء امرأة ميسورة سوف توفر له المال لاستعادة حرفته القديمة.
لا يقدم نوي الجزار كشخص سام ومؤذ من البداية فقد صمد أمام ظروف نشأته الصعبة وأسس عملاً لنفسه ولم يترك ابنته في البداية، لكن عندما ينهار كل شيء تنهار معها قناع القيم، ويجد في أفعاله استحقاقًا وتعويضًا عن الحياة القاسية التي عاشها، فيترك ابنته ويرتبط بامرأة يكرهها حتى يستعيد عمله مرة أخرى، وعندما لا تحقق له هدفه لا يجد غضاضة في ضربها ليجهضها. ويسقط قناعه الأبوي ليكشف عن هوسه الجنسي بابنته الذي يجد في حبه لها مبررًا لإقامة علاقة جنسية معها.
يمتلك أيضًا أوسكار بطل فيلم «ادخل إلى الفراغ» هوسًا جنسيًا بأخته الصغيرة، يخفيه خلف قناع الأخ الكبير المسئول عن رعايتها بعد رحيل أبويهما المأساوي، يظهر لنا من خلال مشاهد ذكرياته عن حياته السابقة، بعد أن تركت روحه جسده، والتي كان يراقبها فيها وهي نائمة، ومشاهدته لها وهي ترقص في نادي العُري بعد أن اصطحبها إليه، ويحقق هوسه ورغبته المكبوتة فيها بتصور روحه الهائمة بعد الموت وهي تمارس الجنس معها.
ويسقط قناع القوة والغطرسة ليكشف هشاشة النفس وضعفها، ويغرقها في شعور جارف بالذنب وجلد الذات لدى بطلي فيلميه «غير قابل للعكس» و«حب»، إذ يشتركان في كونهما يمتلكان هوسًا بالجنس والمخدرات يقودهما نحو فقد حبيباتهما والإضرار بهما مع اختلاف التفاصيل.
فبعد اغتصاب حبيبته التي تركها وحدها لشوارع المدينة الخطيرة، يخوض ماركوس بطل الفيلم الأول رحلة جنونية في الجانب المظلم من المدينة بحثًا عن الرجل الذي اغتصب حبيبته وشوهها، أما مورفي فيجتر أحزانه بينما يسترجع تفاصيل علاقته بإلكترا في فيلم «حب» وكيف خانها بعد أن علم باختفائها واحتمالية انتحارها نتيجة لما تسبب فيه من أذى لها.
ويسقط قناع الأم القوية القادرة على رعاية ابنها تحت أي ظرف للأم المشرفة على المجموعة الراقصة في فيلم «ذروة»، ويغرقها شعور جارف بالذنب وقلة الحيلة لاصطحاب ابنها إلى مكان لا يصلح لتواجد الأطفال، يدفعها إلى الانتحار في النهاية عندما يُصعق الطفل المحبوس في غرفة مولد الكهرباء.
اللعب بالزمن
يميل نوي في أغلب أفلامه إلى عدم اتباع ترتيب زمني في سرد حكايته، فكثيرًا ما يلجأ إلى الفلاش باك ليقص علينا تاريخ الشخصيات أو كيف بدأت القصة التي نتابعها في الزمن الحاضر، يستهل هذا الأسلوب على نطاق زمني ضيق في فيلمه الطويل الأول «أقف وحيدًا»، عندما يقوم الجزار بسرد تاريخه الشخصي ما يقرب من أربع دقائق، لنتفهم أسباب غضبه والتحولات الدرامية في شخصيته. يستخدم هذا النمط بشكل مختلف في فيلم «ادخل إلى الفراغ»، إذ يصبح الفلاش باك هو الأداة التي تسترجع بها روح أوسكار شريط حياته منذ ميلاده وحتى مقتله، واللحظات الفارقة والمؤثرة فيها.
يستعيد مورفي تفاصيل علاقته بحبيبته السابقة، عقب علمه باختفائها، فيصير الفيلم كله فلاش باك متقاطع مع مشاهد من الحاضر لمورفي ومنولوجه الداخلي الذي يجتر من خلاله أحزانه، في سرد زمني معقد، يسير من نهاية قصة الحب إلى بدايتها عبر استعراض مجموعات من تتابعات المشاهد التي تمثل كل منها نقطة ارتكاز في القصة.
ينتهج نوي في «غير قابل للعكس» أسلوبًا مختلفًا في السرد، إذا يبدأ حكايته من مشهد النهاية وصولًا إلى نقطة البداية، وهو النهج الذي يظن البعض أنه ابتُدع على يد كريستوفار نولان في فيلم (تذكار – 2000) بينما في الحقيقة ابتدعه الكوري الجنوبي لي تشانج دونج في فيلم (حلوى النعناع – 1999).
ننطلق في فيلم نوي مع البطل وصديقه في رحلة هيستيرية محمومة للبحث عن شخص ما لا نعرف من هو ولا لماذا يبحث عنه في العالم السفلي لتجارة الجنس من المدينة، ويبدو أن المخرج قد أراد وضع المشاهد في أقصى حالات الفضول والترقب للفهم والمعرفة، والاحتفاظ بكامل تركيزه وانتباهه لآخر لحظة في فيلمه، فنحن نجهل القصة ودوافع الشخصيات ونكتشفها شيئًا فشيئًا مع كل مشهد جديد.
هناك نسخة أخرى أحدث من هذا الفيلم قام نوي بإعادة مونتاجها بترتيبها الزمني الصحيح، عرضت بعد عشرين عامًا من عرض الفيلم الأول، والتي يتغير معها تمامًا شكل الفيلم ووجهة النظر، وتأثيرها علينا كمشاهدين.
وجهة نظر البطل
يميل نوي في أفلامه إلى تبني وجهة نظر بطله في سرد الحكاية، سواء عن طريق المونولوج الداخلي، أو أن يجعل من عدسة الكاميرا عيني البطل اللتين نشهد من خلالهما القصة، ففي فيلمي «أقف وحيدًا» و«حب» يورطنا نوي مع مشاعر بطليه من خلال سردهما لحكايتهما بكل ما تحمله من مشاعر متناقضة ورؤيتهما للعالم ولاختياراتهما، وكأنه يقول للمشاهد ضع نفسك مكانهما وحاول أن تتفهم تناقضاتهما وتعقيدهما فجميعنا نمتلك شيئًا منها.
أما في فيلم «ادخل إلى الفراغ» فيضعنا أوسكار، من خلال استخدام عيني البطل/ الكاميرا الراوي للحكاية، الذي نعيش معه تجربة تناوله مخدر الأسيد، ونهيم مع روحه السابحة في الفراغ بعد موته.
الصورة
بدأ غاسبار نوي تعاونه الممتد مع مدير التصوير بينوا ديبي منذ فيلم «غير قابل للعكس»، وهو الفيلم الذي بدأت تكتمل فيه ملامح أسلوبه البصري الذي صار بصمته السينمائية المميزة التي تتعمد توريط المشاهد في تجربة الأبطال، فاكتسبت حركة الكاميرا طابعًا ديناميكيًا مستمدًا من الحالة الشعورية والنفسية للشخصيات، ففي الفيلم المذكور تتحرك الكاميرا في البداية بشكل سريع ومضطرب تماهيًا مع حالة الاهتياج التي تنتاب البطل وصديقه أثناء بحثهما عن المغتصب، وتبدأ في الهدوء والاستقرار كلما اقتربنا من البداية تبعًا للحالة الذهنية والعاطفية للأبطال.
تعايش تجربة روح أوسكار الطافية في الفراغ بعد مقتله في «ادخل إلى الفراغ» وهي تتنقل هائمة بين أماكن أخته والشريك الواشي والصديق، ليرى كيف استقبلوا موته وكيف يستأنفون حياتهم من بعده. وتترنح مع الراقصين المهتاجين بفعل المخدر، وتركض خلفهم في حركتهم القلقة والمحمومة وهي تتابع فقدانهم السيطرة على أنفسهم وانهياراتهم.
يكثف نوي الحالة الشعورية لأبطاله ويجسدها سينمائيًا مستخدمًا الإضاءة النيون المتوهجة التي تشكل مكونًا أساسيًا في الطابع البصري لأفلامه، وتتألف عادة من اللون الأحمر والبرتقالي والأخضر، وإن كان الأحمر، سواء في الإضاءة أو حضوره في الأماكن، هو لونه الأهم للتعبير عن ذروة الحكاية أو قوة المشاعر والانفعالات المسيطرة على المشهد، فهو لون النفق التي تغتصب فيه مونيكا بولوتشي في «غير قابل للعكس»، ولون أرضية صالة الرقص التي يبدأ عليها الراقصون رقصهم الصاخب وصولاً إلى انهيارهم وفقدهم السيطرة على رغباتهم ومخاوفهم وغرائزهم.
يستخدم نوي الإضاءة الحمراء المتوهجة بشكل كثيف ومركز في المشاهد الأيقونية التي تمثل نقاط التحول في الشخصيات ومساراتهم الحياتية داخل الحكاية، وغالبًا ما تكون مشاهد تتضمن مشاعر قوية وعنيفة، ففي فيلم «حب» تشتد كثافة اللون الأحمر في مشهد الرقص الذي يجمع إلكترا ومورفي بالفتاة التي قررا إقامة علاقة معها، لينبهنا أن هذه هي اللحظة التي سينهار بعدها كل شيء.
ويصبغ تتابع المشاهد اللاهث الذي يمثل ذروة فيلم «غير قابل للعكس» عندما يقتحم ماركوس وبيير الماخور الذي يبحثان فيه عن المغتصب وينتهيان بقتل الرجل الخطأ، وعندما يصعق الطفل الصغير في غرفة مولد الكهرباء في فيلم (ذروة) وصراخ أمه بأنها قتلته.
رغم قسوة أسلوب غاسبار نوي السينمائي، وتعمده صدمة الجمهور ووضعه دائمًا في أقصى حالات القلق والتيقظ لدرجة تتطلب معها استعدادًا ذهنيًا ونفسيًا قبل مشاهدة أفلامه، تظل أفلامه تحمل جماليات فنية وسينمائية تختبئ خلف قشرتها الجافة والعنيفة، تتطلب مرات من المشاهدة لاستكشافها وتفكيكها.
اقرأ أيضا: شيفاني بانديا لـ«فاصلة»: جذب الجمهور لمهرجان البحر الأحمر أهم أهدافنا