فاصلة

مراجعات

«ريفنشتال»… زيارة جديدة لعبقرية مثيرة للجدل

Reading Time: 6 minutes

عادت المخرجة الألمانية ليني ريفنشتال إلى فينسيا بعد رحليها عن الحياة بعقدين من الزمن، لكنها في هذه المرة هي الحكاية وموضوع الاستكشاف، وليست مخرجة تجيد تسخير موهبتها اللافتة لتلميع نظام حكم نشر الرعب في العالم لما يقرب من عقد من الزمان. تعود ليني للمهرجان من خلال الفيلم الوثائقي الذي يحمل عنوان «ريفنشتال» للمخرج الألماني أندريس فيل.

في عام 1938 تقاسم الفيلم الألماني «أوليمبيا» والذي أخرجته ريفنشتال جائزة كأس موسوليني مع الفيلم الإيطالي «الطيار لوتشيانو» للمخرج جويدو أليسندريني، وهي الجائزة الكبرى التي تغير اسمها لاحقًا بعد الإطاحة بالفاشية إلى جائزة الأسد الذهبي في عام 1954. ولا يزال الفيلم الذي حازت به ريفنشتال جائزتها من أشهر الأعمال الفنية التي تندرج تحت ما يسمى السينما الدعائية وينافسه ف يالشهرة فيلم آخر لها يُدرَّس باعتباره أكثر الاعمال الدعائية تاثيرًا وجودة وهو فيلم «انتصار الإرادة» Triumph of the will.

(Olympia (1936

أعقب هذا الفوز غضب في أوساط السينمائيين الفرنسيين والأمريكيين لتجاهل إدارة المهرجان الأعمال المميزة من فرنسا وأمريكا وإنجلترا في ذلك العام والأعوام السابقة عليه، وعدم تقدير أعمال متميزة مثل فيلم «الوهم الكبير» للمخرج الفرنسي جان رينوار، وفيلم «سنووايت والأقزام السبعة» من اخراج ديفيد هان وإنتاج شركة والت ديزني، واحتكار الجوائز للدولة المنظمة -إيطاليا – وحلفائها. ترجم هذا الغضب على هيئة تأسيس مهرجان سينمائي ديمقراطي حر لا يخضع لقيم الفاشية والنازية الإيطالية والألمانية تحت حكم موسوليني وهتلر، فكانت ولادة مهرجان كان السينمائي على يد فيليب إيرلانجيه. 

يعتبر النظام الألماني النازي الأب الروحي لما يسمى بالسينما الدعائية، على الرغم من أن البداية كانت مع السوفييت وتحديدًا مع الفيلم الصامت «المدمرة بوتمكين» Battleship Potemkin من إخراج سيرغي إيزنشتاين عام 1925، والذي يؤرخ للثورة العمالية التي قامت في سان بطرسبرِج عام 1905، ويتضمن الفيلم مشاهد لا تزال تعتبر من أهم المشاهد السينمائية مثل مشهد المذبحة على درجات الأوديسة، ويستخدم الفيلم كمثال لتوضيح أهمية المونتاج في خلق الحالة الشعورية لدى المشاهد وأهميته في عملية صناعة الفيلم. نجاح فيلم إيزنشتاين لفت انتباه وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز لأهمية استخدام السينما لخلق الانتماء السياسي والإيمان بمعتقدات الحزب النازي الذي أراد الترويج له ولمبادئه. 

battleship potemkin (1925)
battleship potemkin (1925)

التقت ليني بهتلر لأول مرة في عام 1933، وحسب مذكرات ليني التي كتبتها ونشرتها عقب هزيمة النازية؛ طلب منها هتلر في هذا اللقاء إخراج أفلام عنه وذكرت أنها رفضت لعدم اهتمامها بالسياسة ولرفضها إخراج أفلام بناءً على الطلب مضيفة أن ذلك لا يتوافق مع مبادئها. ما أوردته ليني في مذكراتها المتأخرة يناقض مسيرتها المهنية وأفلامها التي تشهد عليها. هذا التناقض الصريح بين ما سجلته وما أخرجته يداها، مضافًا إليه ثراء حياتها بالأحداث المثيرة، وتجربة اعتقالها بعد انهيار الحكم النازي ثم تبرئتها وإطلاق سراحها، ناهيك عن عمق تأثيرها في صناعة السينما من خلال استخدام تقنيات إخراجية مبتكرة مثل التصوير بعدة كاميرات باستخدام الرافعات والحرص على تصوير الجماهير وهم في غفلة لخلق صورة ذات تأثير أعمق من ناحية العفوية والصدق، كل هذا ساهم في جعل اسمها ضمن قوائم أكثر المخرجات شهرةً وتأثيرًا في تاريخ السينما، وسمح بتقديم مادة وثائقية مثيرة عرضت في مهرجان فينيسيا هذا العام ضمن فئة الأفلام خارج المنافسة. 

ريفنشتال (2024)
ريفنشتال (2024)

استخدم المخرج «أندريس فيل» أرشيف ليني ريفنشتال من مقابلات تلفزيونية وإذاعية، بالإضافة إلى مذكراتها الشخصية ورسائل وصور وتسجيلات صوتية كانت محفوظة في 700 صندوق، واستعرضها بطريقة بانورامية على مدار ما يقارب الساعتين. مما جعل الفيلم يبدو بمثابة نظرة تأملية للماضي بعدسة أوسع ومشاعر متنوعة تجاه هذه المخرجة، مما يثير في ذهن المتلقي أسئلة لا تهدف لمحاكمة هذه الشخصية المثيرة للجدل، بقدر ما تبحث عن استعراض الفرضيات المتعددة: هل كانت ليني نازية مخلصة أم انتهازية طموحة؟ 

كما يتفرد الفيلم بتسليط الضوء على هذا الأرشيف الضخم والغني لفهم تلك الحقبة الزمنية ورموزها من حيث المبادئ التي اعتنقوها وأخلاقياتهم،  وكيف عاشوا حياتهم بعد هزيمة وانهيار النظام الذي دافعوا عنه وروجوا له، وكيف واجهوا أنفسهم والآخرين، ومحاولة إيجاد إجابة للسؤال الجوهري؛ هل يمكن الحكم على العمل الإبداعي بمعزل عن موقف المبدع أو الفنان سياسيًا، أم أن العلاقة متشابكة ولا يمكننا عزل الابداع عن أيدولوجية الفنان، كما رأت ذلك الكاتبة والناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ في مقال نشرته عام 1974، يتناول أعمال ليني وأظهرت فيه قناعتها أن الجمال في أعمالها لا يمكن فصله عن الإيديولوجيا النازية وأن فيلم انتصار الإرادة هو عمل دعائي بحت.

Triumph of the Will (1935)

 حاولت ليني في المرحلة اللاحقة لسقوط النازية التنصل مما يربطها بتلك الحقبة من خلال تقديم نفسها على أنها سيدة ساذجة بسيطة تفعل ما تؤمر به، وأنها لم تفهم الكثير مما كان حولها في تلك الفترة، لكن أندريس يدحض هذه الفكرة من خلال تسليط الضوء على جوانب في شخصيتها تظهر عبقريتها وتفرد ذهنيتها، فلا يمكن لسيدة قدمت عملًا مثل انتصار الإرادة الذي أحدث عاصفة من الحماس والهتاف بين الجماهير في عرضه الأول، لدرجة دعت هتلر أن يقدم لها باقة من الأزهار وشيك بقيمة مائتي ألف مارك (عملة ألمانيا قبل الوحدة الاقتصادية الأوروبية) حسب ماورد في كتاب بيل نيفن الذي يتناول علاقة هتلر بالسياسة، هذه المرأة لا يمكن لها أن تكون ساذجة وقليلة الحيلة. 

ريفنشتال (2024)

افتتح أندريس الفيلم بلقاء مصور من ارشيفها تذكر فيه أنها عاشت حياة حافلة وغنية وأنه لو عاد بها الزمن للوراء، لاختارت لنفسها ذات المسار والتجربة، كانت هذه الافتتاحية بمثابة مدخل مهم لفهم هذه الروح العنيدة المشاكسة وحبها للحياة وسعيها الدائم للحصول على ما ترغب به. ارتكاز الفيلم على الأرشيف منح المشاهد فرصة التسلل والتلصص على تلك المرحلة باستحضار المكان والزمان. وبسبب حياتها الطويلة – ماتت ليني عن عمر يناهز 100 عام-، سيجد المشاهد نفسه في أزمنة متعددة وأماكن متنوعة وذلك من خلال تسليط الضوء على المرحلة التي قضتها ليني في السودان وتحديدًا منطقة النوبة لتصوير الحياة والأفراد هناك. 

Leni Riefenstahl. Africa

ساهمت خلفية المخرج الأكاديمية من خلال دراسته لعلم النفس في إضافة بُعد آخر للفيلم، من خلال إيضاح تعقيدات الشخصية وربط الماضي بتصرفات الحاضر بشكل سلس، فمثلًا من خلال استعراض مشاهد من فيلم أولمبيا الذي يتناول أولمبياد برلين 1936، والذي كان يروج للتسامح العرقي المزيف والوهمي من خلال مثلًا إبراز مهارات لاعب القوى الأسود جيسي أوينز، وتعزيز قيم النجاح والمنافسة والاكتمال الجسدي والمهارات البدنية، يتمكن المشاهد من فهم مرحلة إقامتها في السودان وأعمالها التصويرية في تلك الفترة وعلاقتها بقيم النازية. 

(Olympia (1936

لم يكن عمل أندريس أول وثائقي يتناول هذه الشخصية المثيرة للجدل، فثمة أعمال كانت تتجه نحو إدانتها مثل فيلم «زمن الصمت والظلام» Zeit des Schweigens und der Dunkelheit للمخرجة الألمانية نينا غلاديتز والذي رأى النور عام 1982 وتناول استخدام ليني للغجر المحتجزين في معسكرات الاعتقال كمجاميع، وإضافات تظهر في كادرات فيلم «تيفلاند» على الرغم من علمها بالمصير الذي ينتظرهم وغرف الغاز.

Zeit des Schweigens und der Dunkelheit 1982

أثار الفيلم وقت عرضه ضجة أدت إلى أن تقف مخرجة الفيلم وجهًا لوجه مع ليني في أروقة المحاكم بسبب القضية التي رفعتها ريفنشتال على غلاديتز بتهمة تشويه السمعة. وعلى الجانب الآخر، كانت بعض الأعمال تمجد براعتها الفنية وتتبع مراحل حياتها، ففي عام 1993 قدم المخرج الألماني راي مولر وثائقي بعنوان «حياة ليني ريفنشتال الرائعة والمروعة» The Wonderful, Horrible Life of Leni Riefenstahl، حاول فيه تقديم سيرة ذاتية مفصلة تتناول حياة ليني ومهاراتها في السينما، وبعد 10 سنوات قدم مولر فيلمًا آخر يتناول حياة ليني في سبعينات القرن الماضي وأعمالها في السودان تحت عنوان «حلمها في أفريقيا»، اللافت أن عمل أندريس فيل يكتفي باسمها عنوانًا للفيلم في حين أن الأعمال السابقة والتي تناولت حياتها كانت تضيف وتلحق اسمها أو حياتها بصفة ونعت، يعلن موقف صانع الفيلم منها. وكأن أندريس فيل يشير ضمنيًا إلى أن هذا الوثائقي يقدم صورة مجردة خالية من الانحياز.

ريفنشتال (2024)

على العكس من ريفنشتال؛ تحظى أعمال سيرغي إيزنشتاين بتقدير واهتمام كبيرين بين صناع الأفلام ومحبي السينما ويتم الاستشهاد بها كثيرًا في مواضع متعددة على الرغم من أنه مؤسس السينما الدعائية، بينما يتم نبذ أعمال ليني ريفنشتال، هذا التباين في التعامل بين ذات الموضوع يخلق بداخلي سؤال هل هذا التباين لأسباب جندرية، خصوصًا أن ليني تعرضت للنقد من وزير الدعاية جوبلز الذي أعاق عملها في مناسبات عدة وكان يصفها بالسيدة العصبية التي لا تملك السيطرة والتحكم بزمام الأمور وحتما حينما أراد مدحها قال «ليني مخرجة بارعة جدًا، تخيلوا فيما لو أنها كانت رجلًا»، أم لأن التاريخ ينحاز للأقوى، ففي نهاية المطاف السوفييت ليسوا الألمان في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

اقرأ أيضا: «مصيدة» إم. نايت شيامالان… عندما تسقط في فخ نجاحك الأول

شارك هذا المنشور

أضف تعليق