فاصلة

مقالات

رحلة مع كوروساوا.. السينما واكتشاف الذات

Reading Time: 6 minutes

العام 1999، هذه سنتي الدراسية الأولى في المعهد العالي للفنون المسرحية، والفيلم الذي سندرسه هو “أحلام” Dreams أكيرا كوروساوا. جلست وسط زملائي للمشاهدة وقبل أن ينقضي الحلم الأول، استحال الفيلم إلى  شرارة أضاءت لي طريقًا جديدًا إلى داخل عوالم السينما. لم يكن اللقاء مع هذا الفيلم حدثًا عابرًا، بل أشبه ببوابة فتحت أبواب الخيال، وجعلت السينما أكثر من مجرد صور متحركة، بل مساحة لاستكشاف الحياة.

بعد خمس وعشرين عامًا من تلك اللحظة، جاءت رحلتي إلى اليابان، سعيًا لاستعادة تلك الشرارة الأولى. كانت الرحلة محاولة لاقتفاء أثر السينما داخل الذات، وزيارة بعض الأماكن التي شكلت خلفية لأعمال كوروساوا. 

كوروساوا

طوكيو، المدينة التي احتضنت بداياته، كانت نقطة الانطلاق، لكنها لم تكن المحطة الأبرز. أعماله حملت روح البحث عن أماكن تحمل طابعًا أكثر عمقًا.

في كيوتو، كشفت زيارة فندق “إيشيهارا”؛ الفندق المفضل له عن جانب بسيط وعميق من حياته. تحمل الجدران هناك قصصًا عن لحظات تشكلت فيها رؤى وأحلام.

كوروساوا

ثم في كوماموتو تجد لوحة رسمها، تستحضر مشهدًا من مشاهد فيلمه “كاجيموشا” Kagimosha. توحي تفاصيل اللوحة الدقيقة وألوانها القوية بمخيلته الثرية التي لم تعرف قيودًا. بدا المشهد كأنه امتداد لشغفه بفن الرسم، الذي كان جزءًا من طريقته في بناء عالمه السينمائي.

كوروساوا

تستحضر في فوشيمي إيناري أجواء مشهد “الشمس عبر المطر” من فيلم “أحلام” حيث تبدو الطبيعة وكأنها تنطق بلغة تعكس روح أعماله. غابة كاسوجا في نارا، حيث صور “راشمون” Rashomon، بدت وكأنها تهمس بأسئلته العميقة حول الحقيقة والزيف، أسئلة تبدو وكأنها لا تزال معلقة بين أغصانها، تنقل ذلك الصراع الأزلي بين الواقعي والمدرك.

وأخيرًا، كاماكورا، المكان الذي صُور فيه “الجنة والجحيم” High and low، يحمل هذا المكان ثقل المشاعر، كونه المحطة الأخيرة لكوروساوا حيث دفن هناك أيضًا. تعج هذه المدينة بالتاريخ، بدت كل زاوية فيها وكأنها جزءًا من لوحة أكبر تتجاوز الزمن.  

كوروساوا        

 أشعة الشمس والظلال: أحلام كوروساوا وغموض عالم الثعالب

في عالم تتشابك فيه الأحلام مع الواقع، يأخذنا كوروساوا في رحلة عاطفية وعميقة عبر ثماني قصص مستوحاة من أحلامه الخاصة. فيلمه هذا ليس مجرد سرد سينمائي، بل نافذة على قلبه وفكره، حيث يعالج مواضيع كالحرب، والدمار البيئي، والانسجام الهش بين الإنسان والطبيعة. تبدو القصة الأولى ” الشمس عبر المطر”، وكأنها قصيدة تتناول العواقب الروحية للعصيان البشري. إنها قصة مستوحاة من الأساطير اليابانية، تُجسد العلاقة المعقدة بين الإنسان وقوى الطبيعة.

يفتتح كوروساوا هذا الحلم بقصة طفل صغير يتجاهل تحذير والدته بعدم دخول الغابة أثناء هطول المطر تحت أشعة الشمس، وهي ظاهرة نادرة تُخفي وراء جمالها البسيط أسرارًا غامضة ودلالات ثقافية عميقة. تقام أثناء هذه الظاهرة وفقًا للأسطورة حفلات زفاف الثعالب السرية، تلك الكائنات الروحية التي تثير الخوف والرهبة في آن واحد. تُمثّل الظاهرة رمزًا للعلاقة المقدسة بين الطبيعة والأسطورة في الثقافة اليابانية، حيث تختلط الحدود بين ما هو دنيوي وما هو روحاني.

يخترق الطفل بفضوله الطفولي حُرمة الغابة ليشاهد هذه الطقوس الغامضة: موكبا مهيب للثعالب في احتفال يفيض بالغموض والجمال. الحركات الدقيقة، الصمت المشحون، والرهبة التي تغمر المشهد تشكل لحظة سينمائية آسرة. لكن اقتحام الطفل لهذا العالم السري لا يمر دون عقاب؛ ترسل الثعالب سكينًا إلى منزله كرسالة غضب وطلبًا للتكفير عن ذنبه. وبهذا، يُدفع الطفل للبحث عن مغفرة هذه الكائنات المهيبة، لتبدأ رحلته نحو قوس قزح، ذلك الجسر الذي يجمع بين الخوف والأمل.

الثعالب في هذا المشهد ليست مجرد شخصيات رمزية؛ إنها تمثيل لديناميكيات الطبيعة كما يراها كوروساوا: مهيبة لكنها لا ترحم. جميلة ولكنها خطرة. حفلة زفافها تمثل الإيقاعات الخفية للعالم الطبيعي، تلك التي يزعجها الإنسان على مسؤوليته الخاصة. رحلة الطفل لطلب المغفرة تجسد التوازن الهش بين البشرية وقوى الطبيعة، وهو موضوع يتكرر في أعمال كوروساوا.

كوروساوا

يحوّل كوروساوا عبر عدسته المبدعة، الأسطورة اليابانية إلى عمل فني عالمي. الصور الحية، والسرد العميق، والأجواء المليئة بالرهبة، تتضافر كلها لتقدم تأملًا حيًا عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة. 

تُعتبر الثعالب في الثقافة اليابانية رسلًا للإله إيناري، إله الزراعة والخصوبة. يُعزز حضورها في المعابد مثل فوشيمي إيناري رمزيتها كوسطاء بين العوالم. وهنا، تتشابك الأسطورة مع الواقع، تمامًا كما يفعل كوروساوا في سرده، ليقدم دعوة شاعرية لاحترام العالم الطبيعي وقوانينه الروحية.

في أعماق الغابة: راشومون ومتاهة الأخلاق في مدينة نارا

ينقلنا كوروساوا إلى غابة معبد كاسوجا في نارا، حيث يلتقي السكون بالجلال وتقع أحداث قصة تتشابك فيها الحقيقة مع الوهم، وتنهار فيها الحدود بين الإدراك والواقع. وسط هذا الجمال الساحر، تقع جريمة تقشعر لها الأبدان: تم قتل ساموراي واغتُصِبَت زوجته. تُحكى القصة من خلال أربع شهادات مختلفة. تحمل كل شهادة جزءًا من الحقيقة، لكنها أيضًا محمّلة بالتناقضات والانحيازات، مما يدفعنا إلى مواجهة سؤال وجودي: هل يمكننا حقًا الوصول إلى الحقيقة في عالم يعج بالتحيزات الإنسانية؟

الغابة في هذا العمل ليست مجرد خلفية صامتة، بل هي شخصية فاعلة، شاهدة على هشاشة البشر وتناقضاتهم. أشجارها الشاهقة وتداخل أغصانها الكثيف يعكسان تشابك القيم الأخلاقية وصعوبة التمييز بين الصواب والخطأ. يبرز في اختيار كوروساوا لهذه الغابة، حسه العميق بالمكان كأداة سردية، حيث تصبح الطبيعة هنا رمزًا لصراعات الإنسان الداخلية. يجسد الضوء والظل، اللذان أتقن كوروساوا استخدامهما من خلال المرايا التي تعكس أشعة الشمس، ازدواجية الطبيعة البشرية: الحقيقة والكذب، الشرف والخيانة. وبين هذه المتناقضات، تبدو شخصيات القصة ضئيلة، تكافح في مواجهة قراراتها الأخلاقية التي تتضاءل أمام اتساع الغابة المهيب.

في أحد أبرز مشاهد الفيلم، نشاهد المبارزة بين تاجومارو قاطع الطريق المتهم بقتل الساموراي  والساموراي نفسه، حيث يتحدى كوروساوا التوقعات التقليدية عن معارك الساموراي الأنيقة. المشهد مليء بالفوضى والضعف الإنساني، يعكس حالة التشوش التي تعيشها الشخصيات. هنا، تتداخل الغابة مع الحدث، وكأنها تقول للمشاهد إن الطبيعة، رغم جمالها، لا تأبه بصراعات البشر. حضورها المهيب يضيف بُعدًا عاطفيًا عميقًا، حيث تصبح الغابة قاضيًا صامتًا لأفعال الشخصيات.

الغابة ليست فقط متاهة حقيقيةتضل الشخصيات في دروبها المتشابكة، بل متاهة رمزية أيضًا، تعكس تخبطهم في غياهب أخلاقياتهم المتضاربة. في هذا المكان المهيب، تبدو قصص الشخصيات مجرد شذرات ضائعة، تكافح لتثبت مصداقيتها أمام الطبيعة التي لا تكترث. بهذا، تصبح الغابة مسرحًا تُعرض عليه تساؤلات الإنسان: عن الحقيقة، والشرف، والبقاء.

كوروساوا

المفترق الأخلاقي: “الجنة والجحيم” وخط إنودين

في فيلم “جنة وجحيم high and low” نحن أمام درس متقن في فن السرد السينمائي. يتجاوز الفيلم جذوره كدراما جريمة ليصبح استكشافًا عميقًا لمفهوم الأخلاق والقضايا الاجتماعية. في جوهر القصة نجد كينغو غوندو، رجل الأعمال الثري الذي يؤدي دوره توشيرو ميفوني، والذي تنقلب حياته رأسًا على عقب عندما يُختطف ابن سائقه عن طريق الخطأ بدلًا من ابنه. يجد غوندو نفسه أمام معضلة شاقة: إنقاذ الطفل سيتطلب التضحية بثروته التي ناضل بشدة لتحقيقها. يغوص الفيلم في أسئلة جوهرية حول الأخلاق، وفجوة الطبقات الاجتماعية، وقوة الإنسان على التحمل، ليقدم انعكاسًا للمشاهد ويطرح السؤال: ما الذي يجعلك تضحي بمبادئك؟

اختار كوروساوا خط إنودين في كاماكورا لتصوير مشهد تسليم الفدية، وهو خط سكك حديدية متواضع يميزه بمساره الساحلي الخلاب. هذه الخلفية، التي تتميز بسكونها وإيقاعها البطيء، تتناقض بحدة مع التوتر العالي للمشهد. يضيق القطار الخناق على غوندو، فيبرز هشاشته وهو يلتزم بتعليمات الخاطف، لينتهي الأمر بلحظة محورية عندما يرمي الحقيبة الممتلئة بالنقود من النافذة في التوقيت المحدد تمامًا.

يتجاوز خط إنودين كونه مجرد موقع تصوير، ليصبح رمزًا أعمق في السرد. يمثل مساره الانتقال بين “الجنة” التي يعيشها غوندو في قصره الفخم على التلال، و”الجحيم” المتمثل في الأحياء الفقيرة التي ينتمي إليها الخاطف. الحركة الثابتة للقطار تصبح استعارة لتقدم الأحداث الحتمي، حيث لا رجوع بعد انطلاقها.

باختياره خط إنودين، أضاف كوروساوا بعدًا بصريًا وعاطفيًا للمشهد. الضوء الطبيعي الذي يغمر القطار، وصوت عجلاته الرتيب، والتناقض بين جمال الساحل والتوتر الأخلاقي، يجعل المشهد أيقونيًا. هنا يبلغ صراع غوندو الداخلي ذروته، وتجعلنا براعة كوروساوا نعيش كل لحظة منه. عبر هذا المشهد، يرتقي الفيلم ليصبح تأملًا خالدًا في التضحية والأخلاق والطبيعة البشرية.

لا يقتصر الفيلم على استكشاف الفوارق الطبقية، بل هو دراسة دقيقة للشخصيات. قرار غوندو بالتضحية بكل شيء من أجل طفل ليس من أسرته يرفعه من مجرد ضحية ظروف إلى رمز للصلابة الأخلاقية. حتى الخاطف الذي تدفعه مظالم اجتماعية، يُصوَّر كنتاج لبيئته وليس كشرير نمطي.

نهاية الرحلة. الأثر الذي لا يزول

كاماكورا، المدينة التي تضم قبر كوروساوا، كانت المحطة الأكثر تأثيرًا في هذه الرحلة. المكان بسيط ومليء بالسكينة، محاط بأشجار الصنوبر التي تضفي على الأجواء نوعًا من التأمل الصامت. الوقوف أمام قبره لم يكن وداعًا بقدر ما كان لقاءً مع روح ظلت حاضرة عبر أعماله.

تركت سيجارة على القبر أنهيت معها حديثًا غير منطوق، اعتراف بعلاقة امتدت لسنوات بين محب للسينما ومُلهمه الأول. لحظة تحمل نوعًا من الامتنان الهادئ.  المشاهد التي أحاطت بالمكان بدت كأنها امتداد لأفلامه، كل تفصيل فيها يحمل صدى لرؤيته الفريدة.

لم تكن الرحلة إلى اليابان فقط بحثًا عن أماكن أو ذكريات، بل كانت فرصة للتصالح مع أسئلة ظلت عالقة منذ اللحظة التي دخل فيها فيلم “أحلام” إلى حياتي. الأماكن التي شهدتها، من طوكيو إلى كاماكورا، لم تكن مجرد محطات، بل كانت نقاط تواصل مع عوالم كوروساوا التي شكّلت جزءًا من ثقافتي.

كوروساوا

 الأماكن التي شهدتها والأثر الذي تركه كوروساوا خلفه باتت الآن جزءًا من روايتي الخاصة. ليست السينما مجرد حكايات تُروى، بل هي مرآة تعكس ما بداخلنا. رحلة اليابان كانت أكثر من مجرد استكشاف لأماكن تصوير، بل كانت خطوة أخرى في فهم الذات، حيث يظل تأثير كوروساوا مستمرًا، يهمس بهدوء أن السينما رحلة لا تنتهي، وأن كل مكان يحمل في طياته بذور قصة تنتظر أن تُروى.

اقرأ أيضا: لمحة من سينما كوروساوا

شارك هذا المنشور

أضف تعليق