الكتابة عن أعمال المخرج الراحل ديفيد لينش ليست سهلة على الإطلاق، والكتابة عن فيلمه الطويل الأول “رأس الممحاة Eraserhead” مسألة معقدة بالتأكيد. ففيلم لينش الذي أعلن مبكرًا عن مخرج سريالي فريد هو عمل سينمائي شديد التعقيد، وقابِل للعديد من التأويلات.
أثناء البحث لكتابة هذا المقال، وجدت ميلًا لدى عديد من النقاد لاستخدام الخوف من الأبوة مدخلًا لتفسير هذا الفيلم، فبطل الفيلم هنري (جاك نانس) لديه مشكلة في التعامل مع الطفل المشوه الذي تركته له زوجته، كما أن نموذج الأسرة الوحيد الذي شاهدناه، أسرة ماري (شارولت ستيوارت) كان شديد الغرابة إلى حد التشوه.
لهذا رأيت عدم طرح المزيد من النظريات، بل الحديث عن فن تحويل الكوابيس إلى سينما، ذلك التيار الذي بدأه السيريالي العظيم لويس بونويل وأحياه ديفيد لينش في “رأس الممحاة“، فالبطل هنري يبدو وكأنه يعيش كابوسًا مكتمل الأركان. رغم ما تبدو عليه الكوابيس والأحلام عمومًا من سيولة يصعب معها وضعها ضمن قالب محدد، فبإمكاننا أن نجد تعريفات محددة لها في الكتب العلمية، وملامح مشتركة بينها أيضًا. طبقًا للموسوعة البريطانية:
الحلم: مجموعة من الصور والأفكار والعواطف تقع أثناء النوم.
الكابوس: حلم مخيف يصيب الشخص النائم.
لنبدأ بالأشياء الواضحة، أول ما يميز الكوابيس هو أنها تبدو حية وحقيقية: هنري شخص طبيعي يعمل في وظيفة مفهومة ويحب زميلته في العمل. الأشخاص في هذا الفيلم حقيقيون، بعض ملامح العالم حقيقية جدًا، بل وذات تفاصيل دقيقة، لكنها مثل الكوابيس ينقصها شيء ما كي يكون العالم مكتملًا، بل نراه مُختزلًا وغير متناسق. مثلًا؛ الرواق في مدخل عمارة هنري لا يبدو متماشيًا مع شقته الضيقة المهترئة. داخل هذه الشقة لديه سرير مسالم ومدفأة كهربائية ونبتة بجوار السرير، لكن لا المدفأة طبيعية تمامًا ولا النبتة موضوعة في أصيص؛ بل تبدو كأنما هي مزروعة مباشرة على الخزانة الجانبية. ورغم أن أغلبية الأشخاص يبدون طبيعيين، ويعرفهم هنري، فإننا لا نشاهد أي شخص خارج الأحداث، كما في الكثير من الأحلام. نحن نشاهد ونلاقي فقط من لهم دور.

هناك أيضًا ذلك الشعور بالانزعاج أو القلق أثناء الكوابيس، وهذا يمكن ملاحظته منذ اللقطة الأولى. يظهر هنري وفي عينيه نظرة من انعدام الراحة وعدم الفهم، نشاهدها مرارًا خلال الأحداث كرد فعل على مواقف مختلفة. يبدو طوال الوقت مهددًا، ولا توجد لحظة سعادة مكتملة واحدة خلال الأحداث. حتى مشاهد ممارسة الجنس، أو ما يبدو كممارسة للجنس في البداية، لا نشاهد فيها أي عاطفة أو استمتاع ولا حتى تقارب جسدي. التلامس بغرض الجنس ظهر مرتين الأولى من الأم التي قبلت هنري بشكل مُقتحِم، وهو ما يُكمل حالة الانزعاج لديه، والأخرى عندما حاول الأخير لمس زوجته لترفضه بحدة.
ماذا عن الطفل المشوه؟ يتعامل الزوجان في الفيلم مع الطفل وكأنه طفل بالفعل، لا يقفان عند شكله الذي لا ينتمي إلى عالم البشر بحال، لكنهما ينشغلان ببكائه ومرضه. يمثل هذا أكبر تهديد واضح لبطل الفيلم، وهذا أيضًا من معالم الكوابيس الشهيرة، أن يصارع الإنسان خطرًا يهدده. هذا الطفل قد يكون السبب في قتل هنري، الذي ينتهي نهاية غرائبية، هو لا يمون بالمعنى المتعارف عليه، بل يتحول رأسه إلى ممحاة، هل هناك ميتة “حالمة” أكثر من ذلك؟! وإذا تغاضى هنري عن قدرة الطفل على قتله، فإنه لن يقدر على تجاهل بكاؤه الذي لا ينقطع ولا يجد طريقة لإسكاته.

لا يستيقظ أي شخص راضيًا أو سعيدًا من الكابوس، ورغم ما يظهر في نهاية الفيلم من اجتماع هنري مع الفتاة الغريبة التي تغني داخل المدفأة، فإن ما يسبق هذا مباشرة هو قتله للطفل المسخ. لا يمكن أن نأخذ موقفًا واضحًا من هذا القتل، إذ يعتمد هذا على تفسيرنا لطبيعة الطفل نفسه. فقد يكون هذا القتل خلاصًا من الابن وما يمثله من مسؤولية، أو خلاصًا من عائق يمنعه من الوصول إلى حلمه، لكن التفسير لن يغير شيئًا من بشاعة العملية ودمويتها ووقعها على هنري نفسه، فهو يشك في مدى صحة ما يفعله.
حاول مخرجين كثر التعبير عن الأحلام أو الكوابيس في أفلامهم، هيتشكوك استعان بأحد أعمدة السريالية، سلفادور دالي، لصناعة تتابع الحلم في فيلم “ذهول Spellbound”، لكن ما قدمه ديفيد لينش في هذا الفيلم هو أقرب لحلم كامل منذ أول مشاهده وحتى الإظلام الأخير، وهو يجعله تجربة شديدة التفرد.
عندما تُذكر الأفلام السريالية فإن الأعمال الأكثر شهرة كانت في نهاية عشرينيات وبداية ثلاثينيات القرن الماضي، كأفلام لوي بونويل وجان كوكتو. وهذا ما قدمه لينش في أول أفلامه عام 1977، محققًا إنجازًا متفردًا، إذ نافس بعد عدة عقود أساطير السريالية، حتى صار مرجعًا وملهمًا للسريالية السينمائية. ورغم أن أفلام لينش التالية تبدو أقل غرائبية من “رأس الممحاة” فإننا سنجد نواة لجميع أفلامه بشكل واضح لا تخطئه العين في هذا الفيلم، فكأنما وضع دستوره الشخصي بأكمله فيه.
اقرأ أيضا: ديفيد لينش.. «مخمل أزرق» يغطّي ظلام البشر