يموضعنا «ذا أوردر -The Order»، الثريللر الجديد للمخرج الأوسترالي جاستن كرزل المعروض في مسابقة مهرجان البندقية السينمائي (28 أغسطس- 7 سبتمبر)، في منطقة أيداهو خلال عهد رونالد ريغن منتصف الثمانينات، حيث أفراد من ميليشيا مسلّحة تابعة لليمين المتطرف والنازيين الجدد، يأخذون مجدهم للترويج لعقيدتهم. يسرقون ويقتلون لفرض مشروعهم القائم على الكراهية والفصل العنصري.
في جو يسوده التوتّر والضغوط، سيجد الشرطي الفيدرالي تيري هاسك (جود لو الذي تولّى أيضاً الإنتاج)، هذا الانطوائي وصياد الغزلان في أوقات فراغه، المصر على تطبيق العدل مهما كلّف (والتكلفة ستكون عالية أحياناً)، نفسه داخل لعبة قط وفأر مع قائد تنظيم مسلّح، بوب ماتيوز (نيكولاس هولت) الذي يترأس مجموعة من النازيين الجدد. ماتيوز شخص حقيقي، قضى في العام 1984 مثلما سنرى في خاتمة الفيلم.
ماتيوز يريد تأسيس بقعة جغرافية محصورة بالآريين داخل الولايات المتحدة، وكلّ الوسائل مشروعة لتحقيق ذلك، بما فيها افتعال حرب أعراق تقضي على غير البيض واليهود. أما العقيدة، فمستوحاة من كتاب «يوميات ترنر» للكاتب الأميركي العنصري وليام لوثر برس. هل تعرفون «البراود بويز»، مجموعة الشبّان الذين اقتحموا مبنى الكابيتول عام 2021 للاعتراض على نتائج الانتخابات التي خسر بموجبها ترامب أمام بايدن؟ هؤلاء الذين في الفيلم هم النسخة الثمانينية لهؤلاء، لكنهم على درجة أعلى من العنف والتعنّت.
للشرطي هاسك باع طويل في محاربة تنظيمات مشابهة، والحكاية ستبدأ عندما يصل إلى أيداهو ليعي بسرعة ان عملية كبيرة يجري الاستعداد لها على يد هؤلاء، لا يمكن صرف النظر عنها. وهكذا يبدأ الصراع الذي سيستمر طوال الفيلم. لبوب ماتيوز زوجة وحبيبة ستجدان نفسيهما في وسط الأحداث الدموية. وجمهور من المناصرين والمعجبين بعقيدته معظمهم يأتي من خلفيات فقيرة أو من غير المتعلّمين. هؤلاء يتأكلهم الاحساس المزمن بالمظلومية، ولا شيء يُشعرهم بالاطمئنان الا وعود التصعيد. والجميع يعرف ماذا يعني التصعيد في أبجديات هؤلاء: إقصاء الآخر ونشر الكراهية واحداث شرخ عميق في المجتمع على أساس العرق واللون.
هذا ما هو عليه باختصار سادس فيلم روائي طويل لكرزل الذي يعرف كيف يحبس أنفاسنا في مشاهد الذروة، قبل أن يغرق في مشاهد محض وظيفية في مراحل أخرى. وهكذا ستمضي الساعتان. لكن مجمل العمل يضع الحركة في الصفوف الأمامية، مراهناً على المواجهة الكلاسيكية بين الخير والشر، على حساب كلّ المقاربات الأخرى، فتحملنا الأحداث إلى نوع من تجوال أشبه بالسير داخل حقل ألغام. كلّ شيء قابل للتفجير في أي لحظة.
لا شيء مبتكر أو جديد يخرج عن الخط، سوى صدق المخرج وحماسته في سرد الأحداث مدفوعاً برغبة صريحة في الذهاب إلى الهدف، بلا لف ودوران، في محاولة (لا تصل دائماً إلى مبتغاها) لربط الماضي بالحاضر، أي باختصار: حاضر أميركا الترامبي بماضيها العنصري. كرزل يبدي اهتماماً بمعاينة الجذور في بلاد تعششت فيها العنصرية بتكليف ديني، وهي تنام على فوهة بركان. في أربعة عقود، هؤلاء الذين كانوا ينشطون على الهامش، صاروا جزءاً من الحياة السياسية الرسمية. وماتيوز أحد مهندسي الثورة المضادة ضد الديموقراطية والدولة والقانون.
في المؤتمر الصحافي الذي أقيم في «الموسترا» بعد العرض، قال كرزل ما يؤكّد توجّهاته: «هذا الفيلم عن إيديولوجيا غاية في الخطورة، وكيف يمكن أن تنتشر بسرعة. ما كان صادماً بالنسبة لي، وأعتقد أنه كان صادماً لنا جميعاً، هو أن هناك الكثير من المقارنات مع ما يحدث اليوم».
نتيجة خياره في تحويل الفكرة إلى سينما، لن نجد الكثير من المعطيات حول العقيدة التي يفككها، لأنه يركّز على الصراع بين من يحاول فرض القانون ومن يريد الاستيلاء على السلطة لأغراض إيديولوجية. طبعاً، هذا خيار جمالي يعرف كرزل أين سيحمله، لذلك يخلص بفيلم تكمن نقطة قوته في إخراج قوي ذي عضلات مفتولة وإيقاع مشدود ولحظات توتّر عال، رغم الإيقاع الإجمالي المتمهّل.
كلّ شيء في الفيلم ممسوك بقبضة من حديد، حتى الخاتمة تحضر في اللحظة التي لا يمكن تخيّل أي شيء من بعدها. يزجّ بنا كرزل في بيئة ذكورية لا ترحم، قسوة ما بعدها قسوة، عدائية ما بعدها عدائية، والوجوه مثل الأفكار والأحداث والأماكن، تحمل هذه القسوة التي لن تنهار حتى تحت وابل من الرصاص، بل يشتد حضورها، وصولاً إلى لحظة السقوط الأخيرة.
يطرح «ذا أوردر» وجهين لأميركا. قد نرفض كليهما، لكن أحدها أقل سوءاً من الثاني. ولكي تستمر في أن تكون دولة عظمى، على أحد هذين الوجهين الاختفاء، واذا أطل من جديد فالصراع سيعود إلى حين القضاء عليه. هذه لعبة معروفة: غالب أو مغلوب. لا يمكن لكليهما البقاء في السلطة.
هذه المواجهات التي تحفل بها السينما الأميركية هي سبب وجود «ذا أوردر». ودائماً مواجهات كهذه حريصة على اظهار مدى تقارب الشخصيتين اللتين تقف كلّ منهما في ضفّة. كان يمكن للشرطي ان يكون قائد التنظيم والعكس. لا فرق كبيراً بينهما. ما يتشاركانه أكثر ممّا يفرقهما. إلا أن أسباب الوقوف في صف الشرطي أكثر. بعض المشاهد تحضر أيضاً للتذكير بأننا أمام كائن حيّ يمكن أن يتوب، وهذا ما يمنع الفيلم من السقوط في فخ التنميط ومواصلة النبش في جذور العنف الذي تناوله كرزل في أفلامه السابقة.
جود لو ونيكولاس هولت ممتازان في أدائهما. يعبّران عن التعنّت والصرامة والقلق، مع بعض الضعف الذي يتسرب منهما بين حين وآخر. وكأي فنّان يحترم عمله ويتبع منهجاً، سلّما أمرهما لتعليمات المخرج الذي طلب من جود لو أن يتعقّب نيكولاس هولت ليوم واحد، والأخير، كما رواه خلال المؤتمر الصحافي، لم ينتبه أبداً أنه كان ملاحقاً ولم يُبلغ ذلك إلا عند حضوره إلى البندقية. كان الهدف من هذا القرار إدخالهما في الدور. أضف إلى أنهما لم يلتقيا خلال الأسابيع الأربعة الأولى للتصوير، وذلك لخلق انقسام وتوتّر بينهما.
اقرأ أيضا: «اللعب بالنار».. الابوة في مهب التطرف