امرأة عاملة بسيطة، يبدو على وجهها الحزن والتجهم، تُقدِم بدم بارد على قتل طفل بريء، ثم تذهب إلى كاهن القرية لتعلن عن جريمتها، وتجلس في سلام تنتظر تنفيذ حكم الإعدام عليها بلا أي مقاومة، بينما يشاهد الجميع تنفيذ الحكم من دون غضاضة، بل ويتطوعون بعد قطع رأس المرأة أن يتناوبوا على قطع أصابعها كي يُستخدم الأصبع المبتور تميمة لجلب الذرية والحظ الحسن. أهلًا بك في أوروبا العصور الوسطى المتأخرة!
قد يحتاج المشاهد بعض المعلومات لفهم سياق أحداث فيلم “حمام الشيطان The Devil’s Bath“، للمخرجين النمساويين فيرونيكا فرانتز وسيفيرين فيالا، المعروض ضمن المسابقة الدولية لمهرجان برلين السينمائي الرابع والسبعين، والذي ينطلق من تشريع كنسي ساد خلال زمن أحداث الفيلم (قرابة عام 1750) في منطقة ستيريا النمساوية. يُفتي هذا التشريع بأن من يرتكب جريمة القتل ثم يُطبق عليه القصاص تصعد روحه إلى السماء وقد غُفرت جريمته عبر تنفيذ العقوبة، أما من ينتحر فتغطس روحه في الجحيم ملعونة للأبد.
الأمر أدى لشيوع ظاهرة عُرفت باسم “الانتحار بالوكالة”، حيث اعتاد من يريد الانتحار أن يرتكب جريمة قتل، لطفل على الأغلب لضمان عدم المقاومة، ثم يعترف بالجريمة ويذهب للمقصلة بسلام، فقد ارتاح من الحياة البائسة وضمن قبوله في السماء.
نكتب الترتيب السابق بالصياغة المذكّرة للضرورة اللغوية، لكن الحقيقة التي نشاهدها في الفيلم أن الغالبية العظمى من المنتحرين بالوكالة كنّ من السيدات، أكثر من 400 حالة مسجلة كما تخبرنا عناوين الفيلم. السبب؟ تحتاج لمشاهدة “حمام الشيطان” لتفهمه.
ما هو حمام الشيطان؟
العنوان يأتي من وصف ينتمي للعصور نفسها، حيث اعتاد السكان وصف المصابين بالاكتئاب بأنهم قد دخلوا حمام الشيطان، أي أن عنوان الفيلم بحسب المصطلحات العصرية قد يكون “اكتئاب”، لكن هل يُمكن التفكير بمنطق عصرنا في عالم كهذا؟ بالطبع لا.
بطلة الحكاية امرأة بسيطة تُدعى آجنس، تجسدها آنيا بلاشج برهافة مذهلة، تضعها في صدارة الأداءات التمثيلية النسائية في مسابقة برلين. شابة تنتظر زفافها إلى وولف، الصياد الشاب ذي الجسد الضخم. نلمح في عينيها مزيج بين الفرحة بالزواج والقلق من الانتقال مع زوجها إلى منزل جديد استدان لشرائه، وفي ليلة الزفاف يلفت النظر أمر عابر: آجنس تحاول مساعدة النساء في الأعمال اليدوية، فيرفضن باعتبارها ليلة الاحتفال بها، ليبدو عليها للحظة الارتباك. وكأنها فُطرت على العمل اليدوي المستمر، لدرجة الشعور بعدم الارتياح في ليلة واحدة في حياتها يحق لها فيها ألا تفعل شيئًا! الأمر يسري بطبيعة الحال على كل نساء عصرها.
لا يتوقف المخرجان كثيرًا عند تلك اللحظة، فالحياة تُخفي لآجنس المزيد من المفاجآت غير السارة. الزوج عازف عن الاقتراب منها جسديًا، مع تلميحات خافتة بانجذابه لجار شاب. والدته لا تتوقف عن التدخل في حياة الأسرة الجديدة وإصدار الأحكام على الزوجة الشابة، وعالم الصيد الذي تدخله العروس فتجد نفسها تحاول ملاحقة العمل اليدوي المُنهك الذي لا يتوقف، تارة لمساعدة زوجها لتسديد دين المنزل، وتارة لأن أي توقف يعرضها للمساءلة والأحكام ممن حولها.
ثلاث دوائر من القهر
بعد قرون من زمن الأحداث أثبت العلم أن الاكتئاب مرض عضوي لا يرتبط بالضرورة بظروف معيشية بعينها، لكن إن كانت هناك حياة يمكن أن تكون مسببة للاكتئاب، فستكون بالتأكيد حياة امرأة مثل آجنس التي تطوّقها ثلاث دوائر من الهموم: حياة القرون الوسطى المرهقة، المتقشفة، الخالية من أي مصدر للسعادة أو لحظة للراحة، ثم وضع النساء داخل مجتمع ذكوري كليًا لا ترد على أذهان الرجال فيه فكرة امتلاك المرأة لأي حق، وأخيرًا وضعها الشخصي الذي وصفناه، فهي محرومة حتى من المتعة الجسدية التي تنالها نساء أخريات.
يرسم فيرونيكا فرانتز وسيفيرين فيالا لوحة مدهشة للحياة في النمسا خلال القرن الثامن عشر، بطبيعتها الجافة وبيوتها الخاوية من أي حس جمالي، والشعور المُقبض الذي يحوم في أجواء القرى المحكومة بفهم بدائي للدين يبدو أقرب للشعوذة منه للروحانية.
إتقان اختيار مواقع التصوير والملابس والديكور، مع إنجاز مدير التصوير مارتن جشلاشت، كلها أمور تحملنا إلى عصر الأحداث فتلقينا داخله، لنخوض مع آجنس رحلتها لاكتشاف الاكتئاب في عصر لا يعرف معنى تلك الكلمة، والانغماس في الأعراض لنهايتها، وصولًا لقرار الانتحار بالوكالة.
فن الاقتصاد السردي
لا يحمل سيناريو “حمام الشيطان” الذي كتبه المخرجان أي مفاجآت لمشاهديه، ولا يلعب أي لعبة للتعمية أو إخفاء المسار المتوقع للأحداث، اللهم إلا تأخير شرح التشريع الكنسي لتترات النهاية (وإن كان من الممكن فهمه ضمنًا للمشاهد المتمرس). لكنه في المقابل يختار لعبة أصعب وأكثر تأثيرًا: يجعلنا نفهم ما تمر به بطلتنا، ونتوقع مصيرها الذي تدفعها الحياة إليه بإصرار، ثم يتركنا نشعر معها بالاختناق المتزايد الذي يجعل قرارها المخيف منطقيًا، ولك أن تتخيل قدر البؤس الذي يجعل قتل طفل برئ مسارًا متوقعًا!
ليكون أفضل ما في الفيلم هو ذلك المزج بين الاقتصاد والتأثير، فالأسلوب بسيط يعتمد على اختيار العناصر المناسبة وتقديم الشعور الملائم من دون إفراط في الدراما، لكن البساطة نفسها تتمكن من إحداث أثر نفسي واضح، جعله أحد أكثر أفلام المهرجان قدرة على البقاء داخل الأذهان. تشاهد بعده فيلمين أو ثلاثة، ثم تظل في نهاية اليوم محتفظًا بالغصة التي تركتها مأساة آجنس في حلقك.
نكتب هذه السطور قبل إعلان جوائز برليناله 2024، التي قد تأتي بمفاجآت غير متوقعة، لا سيما بعد توحيد جوائز التمثيل والتمثيل المساعد من دون تخصيص فئات للرجال والنساء. لكن لو سارت الأمور وفق المنطق؛ فربما نجد آنيا بلاشج تنال جائزة التمثيل على هذا الأداء المدهش.
اقرأ أيضًا: «نهاية أخرى»… هل تؤمن بالعودة للحياة في جسد آخر؟