فيلم آخر من أفلام الديستوبيا المستقبلية، حيث يتطور الوضع السياسي إلى ما هو أسوأ، اختاره ستوديو A24 أملًا في نجاح جديد ينضم إلى سلسلة نجاحاته غير المتوقعة في شباك التذاكر.
بعد عامين من فيلمه “رجال” men الذي تلقى ردود فعل نقدية متباينة، يعود المخرج والكاتب البريطاني ألكس غارلاند للتعاون مرة ثالثة مع ستوديو A24 في فيلمه الجديد «حرب أهلية» Civil War، بطولة كيرستين دانست، واغنر مورا، كايلي سبايني، ستيفن ماكنلي هندرسون، ونيك أوفرمان.
يتناول الفيلم مستقبلًا أمريكيًا مظلمًا يستولي فيه رئيس على الحكم لفترة أطول مما يسمح له الدستور ويتسبب في حرب أهلية طاحنة بسبب الانقسامات التي تسبب فيها في صفوف الجيش والشعب الأمريكيين، وفي هذا الواقع المظلم يتتبع الفيلم مجموعة من الصحفيين انطلقوا في مهمة محفوفة بالمخاطر لتسجيل تلك الحرب ومحاولة الحصول على تصريحات أخيرة من الرئيس قبل إطاحته.
يعتبر ستوديو A24 هذا الفيلم مدخله إلى معترك شباك التذاكر، حيث أن النجاحات النقدية التي تحققها أفلام الاستوديو لا تنعكس دائماً بشكل إيجابي على بيانات الاستوديو المالية. لذلك خصص الاستوديو ميزانية 50 مليون دولار لإنتاج الفيلم، وأعتقد أن الفكرة خلف ذلك هو تقديم محتوى يجذب الجماهير إلى صالات السينما وفي نفس الوقت يحافظ على المعايير الفنية للاستوديو.
إنتاجياً يظهر تأثير هذه الميزانية الضخمة نسبياً بالنسبة لاستوديو A24 على الصوت والصورة، المشاهد الجوية التي تظهر طرقاً مليئة بالسيارات المهجورة، تعزز من فكرة هذا العالم المستقبلي المخيف. حتى مشاهد الجيوش والدبابات وتصوير المدن يظهر اهتماماً حقيقياً بتصميم الديكور والإنتاج. لكن أكثر ما يثير الإعجاب هو التصميم الصوتي، صوت طلقات النار تحديداً عالٍ جداً ويصدمك في كل مرة يأتي بدون سابق إنذار، في تأكيد على قوة هذه الأسلحة والدمار الذي تستطيع إلحاقه بأجسادنا الهزيلة.
أثبت أليكس غارلاند في أفلامه السابقة، وخاصة «Ex Machina» و«Annihilation»، أنه مخرج قادر على صناعة جو من الرعب النفسي في قالب من الخيال العلمي. كما قدم شخصيات ثرية ومعقدة وناقش مواضيع مثل حرية الاختيار والهوية والفقد والتغيير.
قبل إصدار هذا الفيلم ذكر غارلاند أن فيلم «حرب أهلية» سوف يكون آخر فيلم يخرجه، حيث أنه فقد شغفه نحو صناعة الأفلام. وللأسف يظهر ذلك جلياً في هذا الفيلم.
في البداية، يأخذ الفيلم طريقاً آمناً وخالٍ من المخاطر حينما ينصِّب المصورين الحربيين كأبطال الفيلم، فهو بذلك لا يبدي أي انحياز أو يتحدى أية مفاهيم، ويتموضع في مركز الشاهد على الاحداث متجنبًا الدخول في أي صراع سياسي على الرغم من محتواه السياسي بامتياز. فيخسر الفيلم فرصة مهمة في طرح نقاشات لا بد منها عن الصراع السياسي الذي تشهده أمريكا حالياً، فوقت عرض الفيلم لا يتوافق مع اشتداد الصراعات السياسية داخل أمريكا فحسب، بل يوافق وقتاً تحتدم فيه الاختلافات حول سياسات أمريكا الخارجية.
أدى ذلك إلى وضع الفيلم في مساحة تقديم رسالة وعظية عن مساوئ الحرب، من خلال استعراض مظاهر تلك الحرب من عدة نواحي؛ قيمة الدولار الأمريكي تنهار والمدن الصغيرة تصبح تحت سيطرة ميليشيات تفرض قانونها الخاص متجاهلة تماماً أطراف الحرب ونتائجها، وأسوأ ما في ذلك هو أن هذه الفوضى تمنح فرصة لأي فكر متطرف بارتقاء السلم السياسي في ظل توفر السلاح بحوزته.
هذه الأفكار لا تتطلب معرفة سياسية واسعة، يضاف إلى ذلك الحوارات السطحية والشخصيات غير المركبة التي يعتمد عليها الفيلم، بشكل جعله أشبه بمسودة أولية تحتاج إلى عدة مراحل من المراجعة والتطوير.
فمع التقدم بالقصة لا تتقدم الشخصيات أو تتطور من خلال الرحلة؛ كيرستين دانست برغم محاولاتها التمثيلية المجتهدة إلا أن شخصيتها لا تتعدى الملامح الصلبة ومشاعرها الباردة تجاه كل ما تشاهده من خراب ودمار. نجحت دانست في تأسيس القالب الأولي للشخصية، لكن النص خذلها في تطوير أي زاوية أخرى، واغنر مورا كان حبيس لشخصية مدمنة للأدرينالين بدون أي أثر حقيقي على مسار القصة، وكايلي سبايني لم تستطع تخطي الفكرة المبدئية لمصورة شابة متعطشة لإبهار بطلتها الشخصية وتحقيق مجد شخصي.
المشهد الوحيد الذي شهد نبرة واقعية مخيفة صادف الظهور الوحيد للممثل الرائع جيسي بليمونز، فهو يخطف الأنظار بمشهد يحبس الأنفاس ليس بسبب الخطر المحيط بأبطال الفيلم، بل لأن نبرة الواقعية التي يستحضرها بليمونز للمشهد تجعل كل شيء أكثر واقعية. إنه ليس شخصية مخيفة بسبب حمله لرشاش وقدرته على قتل أي أحد من أبطال الفيلم، بل هو مخيف بسبب تطرفه الذي يمكن فهم مصدره ومدى امتداده من خلال الدقائق المعدودة التي شاهدناه فيها. إنه نوع من التطرف الذي نما في الخفاء لفترة طويلة بدون أن يتم تحديه أو كبح جماحه، وفي أثناء انعدام أي نوع من المقاومة، كانت هذه الشخصية تجد كل مبرر ممكن لتطرفها وتغرق أكثر فيه.
التباين الشاسع بين شخصيات الفيلم وشخصية جيسي بليمونز يفضح سطحية الشخصيات والأداءات بشكل أكبر، فالأداءات والحوارات تبدو وكأنها مصممة لأبطال فيلم أكشن وليس فيلم درامي حربي. في كل مراحل الخطر التي مر بها أبطال الفيلم حتى تلك اللحظة لم نستشعر كمشاهدين أي توتر أو قلق نتيجة لذلك، لكن نبرة البرود تجاه الموت التي أحضرها بليمونز إلى الشاشة جعلتنا نشعر أننا أمام مجرم حرب عنصري حقيقي، يقطف الأرواح كيفما يشاء بدون إلقاء أي بال إلى العواقب، لأنه يؤمن تماماً أن تصرفاته هي عاقبة بحد ذاتها.
من المؤسف أن هذا الفيلم يعود تماماً إلى نبرته المسرحية الوعظية السابقة مباشرة بعد تخطي هذه العقبة التي كان من الممكن أن تكون نقطة تحول جوهرية. مما زاد الأمر سوءاً هو التركيز بشكل شبه كامل على مشاهد الحرب والقتال في آخر الفيلم، وما كان قصة عن النزاهة الصحفية وأهمية توثيق التاريخ، تحول إلى صرف ما تبقى من ميزانية الفيلم على مشاهد إطلاق رصاص وتفجيرات ليس الغرض منها سوى الإضافة إلى القيمة الإنتاجية للفيلم.
اقرأ أيضا: «ثلاثية الحياة لبازوليني»… المتمرد والخارج عن المألوف