«ما هي السينما؟» سؤال كرره وأجاب عليه الملايين منذ أن عرض الأخوان “لوميير” عرضهم السينمائي الأول عام 1895، السؤال كررته أيضا رئيسة لجنة تحكيم برليناله الـ73 «كريستين ستيوارت» قبل أن تعطى دب برلين الذهبي في العام الماضي للفيلم الوثائقي الفرنسي «Sur l’Adamant» للمخضرم “نيكولا فليبير”.. وفي 2024 لم يتغير الأمر كثيراً فدب برلين الذهبي وللمرة الثانية على التوالي ذهب لفيلم وثائقي أيضا هو «Dahomey» للفرنسية السنغالية «ماتي ديوب».
أول عروض الأخوين لوميير السينمائية كانت لمقاطع وثائقية قصيرة لعمال يخرجون من المصنع أو قطار يصل للمحطة، لكن السينما قطعت بعدها شوطًا طويلًا، 129 عاماً قد مروا، من السينما الصامتة للمتكلمة للأفلام المصنوعة بواسطة الذكاء الاصطناعي، ولكن يبقى السؤال «ما هي السينما؟» أو بالأدق في سياقنا اليوم «ما هي السينما التي تريد برليناله تكريمها؟».
في السطور التالية نحاول معكم تحليل جوائز المهرجان العريق، الذي قدم في 2024 دورته الأخيرة تحت الإدارة الفنية للإيطالي “كارلو شاتريان” والألمانية “مارييت ريسينبيك”.
وثائقي فلسطيني
الجائزة العربية الكبرى في برليناله 74 جاءت من نصيب الفيلم الفلسطيني «لا أرض أخرى – No other land» والذي توج أولا بجائزة اختيار جمهور قسم بانوراما لأفضل فيلمًا وثائقيًا ثم توجته لجنة تحكيم الأفلام الوثائقية بجائزة أفضل فيلم وثائقي في المهرجان.
الفيلم يمثل عملًا مشتركًا بين ناشطين فلسطينيين وإسرائيليين وربما لهذا وجد طريقه للعرض في برليناله، لكنه على مستوى المحتوى صادم للمشاهد الغربي حيث يصور تدمير قرى الضفة الغربية وتهجير أهلها الفلسطينيين منها، ما لا يعرض عادة في وسائل الإعلام في الأوروبية عموما وألمانيا خصوصا، صناع الفيلم ألقوا كلمة قوية بعد استلام جائزتهم ونادوا بوقف تصدير السلاح الألماني إلى إسرائيل، ونالوا تصفيق الحضور على ذلك.
هنا نحن أمام محتوى سياسي بامتياز، لكننا أيضا أمام فيلم صادم كعمل استقصائي وتحقيقي وهو بالتأكيد إحدى أهم وظائف السينما الوثائقية. لكن تأمل معي هنا عزيزي القارئ، اللجنة المختصة لاختيار أفضل وثائقي في المهرجان كله، بجميع مسابقاته، اختارت هذا الفيلم وفضلته على وثائقيات المسابقة الرسمية الذي فاز أحدها عقب ذلك بالدب الذهبي!
دببة التمثيل
مهرجان برلين ابتدع منذ سنتين إلغاء للفصل الجندري في جوائز التمثيل، فلا مكان لأفضل ممثل وممثلة، الجائزة الآن تسمى «أفضل أداء».
في 2024 قررت لجنة التحكيم منح بطل أفلام مارڤل «سباستيان ستان» جائزة أفضل أداءً رئيسيًا عن دوره المميز والمركب في فيلم « رجل مختلف- A different man» في حين تم منح جائزة أفضل أداءً مساعدًا للممثلة البريطانية الكبيرة «إيميلي واتسون» عن دورها الصغير حجماً في فيلم الافتتاح «أشياء صغيرة كهذه – Small things like these».
هنا تبدو اللجنة منحازة لأسماء كبيرة وشهيرة، في حين تغافلت عن أداءات كثيرة مميزة لممثلين يحتاجون لدب فضي في بداية مشوارهم، منهم مثلا «صالحة نصراوي» من فيلم «ماء العين – Who Do I Belong To» كدور رئيسي، و «آدم بيرسون» كأداء مساعد في «رجل مختلف – A Different Man».
دببة وفرس نهر وعلامات استفهام
إذا ما كانت جوائز التمثيل قد ذهبت لاثنين من نجوم هوليوود، فبقية الدببة قد تم توزيعها بشكل يبدو وكأنه مصطنع لتحقيق توازن عرقي، فجائزة أفضل مخرج ذهبت بشكل مفاجئ للمخرج «نيسلون كارلو دي لوس سانتوس أرياس» من جمهورية الدومينيكان عن فيلمه المثير للاهتمام «بيبي -Pepe».
«أرياس» هو المخرج اللاتيني الأول الذي يحظى بدب برلين الفضي لأفضل مخرج في تاريخ برليناله. لم يعجب كثيرون بالفيلم الذي مثل تواجده في المسابقة الرسمية مفاجأة، لكنه أعجب البعض أيضاً، المنتجة المكسيكية «جيسيكا فالديز» رأت أن الفيلم يتميز بعكس المنظور، فأرياس قرر أن يحكي الحكاية من وجهة نظر «فرس النهر» الذي يخبرنا بصوته كيف كانت حياته، كيف قرر بابلو اسكوبار إحضار فرس نهر من ناميبيا إلى أمريكا اللاتينية، وكيف قررت الحكومة هناك قتله بعدها على يد صياد ألماني، هذه النظرة الإخراجية الطازجة والغريبة أيضاً قد لاقت استحسان لجنة التحكيم فقررت مكافئتها.
المفاجأت استمرت بجائزة لجنة التحكيم وجائزة لجنة التحكيم الكبرى، فالأولى ذهبت للفيلم الفرنسي الكوميدي البارودي «الإمبراطورية – L’Empire» والذي يحاول صنع صراع لفرسان فضائيين في شمال فرنسا ودون مؤثرات خاصة، والثانية ذهبت بشكل مكرر إلى الكوري الجنوبي «هونج سانج سو» عن فيلمه «احتياجات مسافر – A Traveler’s Needs»، والذي لم يقدم جديداً عن أفلامه الخمس الماضية التي زارت برلين في آخر 4 سنوات، «سانج سو» نفسه أبدى تعجبه للجنة التحكيم قائلا «لا أعلم ماذا وجدتموه في فيلمي!».
لم تكن كل اختيارات لجنة التحكيم مفاجئة، فجائزة أفضل سيناريو قد ذهبت بشكل مستحق للألماني «ماتياس جلاسنير» عن فيلمه البديع «موت – Dying ». جائزة أخرى مستحقه ذهبت للنمساوي «مارتن جيشلاخت» عن أفضل سينماتوغرافي في فيلم الدراما النفسية القاتم «حمام الشيطان – The Devil’s Bath».
علامات استفهام كثيرة على اختبارات لجنة تحكيم المسابقة الرسمية، فاللجنة تجاهلت بشكل مكتمل الفيلم الإيراني «كعكتي المفضلة – My Favourite Cake» والذي نال إجماعًا نقديًا وفاز بجائزة أفضل فيلم من لجنة الفيبريسي ومن اللجنة المسكونية، كما تجاهلت الفيلم التونسي «ماء العين – My Favourite Cake» أحد أفضل أفلام هذا العام دون شك.
علامة استفهام أخرى للتأمل أن كل الأفلام التي فازت بشكل مفاجئ قد تم دعمها انتاجيا من الشبكة الإعلامية الألمانية الفرنسية الضخمة «أرتي» ونقصد هنا «بيبي – Pepe»، و«الإمبراطورية – L’Empire» وأخيرا فيلم الدب الذهبي «داهوماي – Dahomey».
معضلة الدب الذهبي
نعود مرة أخرى لسؤال مقدمة هذا المقال «ما هي السينما التي تريد برليناله تكريمها؟»، قررت لجنة تحكيم برليناله الـ74 برئاسة الكينية المكسيكية «لوبيتا نيونجو» منح الدب الذهبي هذا العام لفيلم «داهوماي – Dahomey»، الفيلم مهم في سياق الكفاح ضد الاستعمار في زمن ما بعد الاستعمار، يقدم الفيلم أيضا نظرة مثيرة للاهتمام حيث يسرد أحداثه بشكل ما من وجهة نظر قطعة أثرية، لكننا لا نقيم مقالات أو أطروحات سياسية، القاعدة الذهبية السينمائية تذكرنا دائما أن من غير المهم بشكل كبير ما تخبرني به، الأهم دائما هو «كيف تخبرني؟».
هل قدم الفيلم متعة كبيرة لمشاهديه؟، هل قدم إنجاز سينمائي في طريقة السرد؟، هل هو أكثر ما سيعلق في ذهننا من أفلام هذا المهرجان؟، كلها أسئلة أجاب عنها غالبية حضور المهرجان بالنفي، هو فيلم يستحق النقاش بالطبع لمخرجه تطرح صوتاً مختلفاً، لكن هل هذه هي السينما التي ستعيش في الذاكرة السينمائية بعد انطلاقها من برليناله؟
أصغر فرهادي صنع إنجازا سينمائيا بفيلمه الأيقوني «انفصال – A Separation» المتوج بدب برلين الذهبي في 2011، المعلم الياباني الكبير «ميازاكي» صنع التاريخ بفيلمه « مخطوف – Spirited away» المتوج بالدب الذهبي في برليناله 2002، كلاهما حصد الأوسكار بعدها، وكلاهما أثرا في الذاكرة السينمائية العالمية، هذه سينما مغايرة أيضا قد كرمتها برليناله في زمن ليس ببعيد.
الأمر لا يتعلق بالتنوع العرقي، يمكن أن تقدم برليناله لجان تحكيم يرأسها صناع سينما يقدمون صوتًا مختلفًا عن السائد، لكنهم أيضا صناع سينما كبار، يمكن لبرليناله أن تكرم سينما مغايرة، لكنها أيضا سينما ممتعة ومؤثرة، لكن برليناله تحت الإدارة المنتهية ولايتها وخصوصا من خلال لجان تحكيم المسابقة الرئيسية في أخر سنتين قد قدمت مزيجًا غير متجانس من التلهف لاستقطاب أسماء هوليوودية على جانب وتصنع دعم أصوات سينمائية مختلفة على الجانب الآخر. وهو مزيج أقل بكثير من إمكانيات هذا المهرجان الكبير.
اقرأ أيضا: «ماء العين»… أن تفسد الطبخة في فصلها الأخير