لا يستغرق فيلم «المصارع2 Gladiator II» وقتًا حتى يزج بالمشاهدين في أول معاركه الدامية والملحمية، في دليل أن ريدلي سكوت لن يتكئ على نجاح الجزء الأول من فيلمه الذي عرض قبل 24 عامًا، بل يريد أن ينجح هذا الفيلم بكل استقلالية. سكوت البالغ من العمر 86 ربيعًا، يبدو أكثر حيوية ونشاطًا من العديد من مخرجين بنصف عمره. بعد أن دخل عقده التاسع، أخرج سكوت – إلى الآن- أربعة أفلام، ثلاثة منها تاريخية ملحمية. جميعها تفوق في مدة عرضها الساعتين والنصف. إن هذا النوع من النشاط المستمر والرغبة التي لا يمكن كبحها، ليست إلا دليل على شغف سينمائي مطلق.
فيلم «المصارع» في جزئه الثاني من بطولة بول ماسكال ودينزل واشنطن وبيدرو باسكال وكوني نيلسن. يتابع الفيلم ما يحدث لـ«هانو» الذي يؤدي دوره بول ماسكال، جندي من «نوميديا» أُسِرَ وقتلت زوجته خلال الغزو الروماني لبلدته، فيقرر تكريس حياته للانتقام من الجيش الروماني وعلى رأسهم الجنرال «أكيسيوس» الذي يؤدي دوره بيدرو باسكال. دينزل واشنطن في دور «ماكرينوس» يشتري هانو ليصبح مفتاحه للدخول إلى البلاط الإمبراطوري ومجلس الشيوخ الروماني.
لا يوجد اختلاف كبير في الحبكة بين الفيلمين، كلاهما يتحدثان عن شخص استُعبِد ولن يستطيع الحصول على حريته إلا من خلال القتال وسفك الدماء في حلبة المصارعة. الفيلمان أيضًا يتشابهان من ناحية وجود إمبراطور فاسد يخشى شعبية جنرال حربي لدى سكان روما، وكلاهما يمتلكان حصة من الخطط الانقلابية والألعاب السياسية. لم أمانع إطلاقًا هذا التشابه في الحبكات، تعاني الأفلام التي تعتبر جزءًا ثانيًا من فيلم سابق من صعوبة استنساخ نجاح الفيلم الأصلي، وحينما يأتي هذا العمل بعد 24 سنة مليئة بالتحولات في صناعة الأفلام وتغير ذائقة الجمهور، من الطبيعي أن تكون هناك صعوبات متعلقة بالمقارنة التي لا يمكن تجنبها مع الفيلم الأول.
كنت متخوفًا من أن يؤثر طول زمن العرض على سرعة السرد وإيقاع الفيلم، خصوصًا مع تفاوت مستويات أفلام ريدلي سكوت في السنوات الأخيرة. لكن بساطة الحبكة ومباشرتها جعلت نسق الفيلم سريعًا ومناسبًا لمحتواه. ينتقل الفيلم بكل سلاسة بين المعارك في الحلبات وبين المخططات السياسية التي سوف تحدد مستقبل روما، ومن خلال ذلك استطاع كتّاب الفيلم خلق تركيبة ممتازة بين الشخصيات موضحين موقف كل شخصية ودوافعها.
بغض النظر عن تلقي النقاد لهذا العمل، فهو يفي بكل وعوده، ويقدم ملحمة تاريخية ممتعة طوال مدة عرضه. لا يمكن انتقاد الجوانب البصرية في الفيلم لأنه لم يكتف بتقديم معارك ومشاهد حركة رائعة، لكنه استفاد من السياق التاريخي (وهي نقطة يتفوق فيها الفيلم على سابقه)، المعركة الحربية في الكولوسيوم والمعارك التي تضمنت حيوانات متوحشة أظهرت الجانب الهندسي الإبداعي في الحضارة الرومانية كما هو الجانب المتوحش والبربري. كما استشعرنا عفوية في تنفيذ مشاهد القتال ما يدل على براعة التصميم، فيستخدم المقاتلون كل ما في محيطهم وجعبتهم للظفر بفرصة لقتل عدوهم، وشاهدنا هذا الأسلوب في القتال يمتد حتى آخر المواجهات.
هذا الاستيعاب للبيئة المحيطة يضيف صبغة واقعية على الفيلم لأننا لم نعد أمام شخصيات ترتدي أزياء تاريخية فقط، بل تنطلق تصرفاتها وسلوكياتها من السياق التاريخي وتدور في إطاره ووفق قواعده. فنرى الكولوسيوم مملوءًا بالمياه استعدادًا لعرض دموي بين مصارعين وجنود بغرض تسلية الإمبراطور ورعاياه (حصل ذلك في عهد الإمبراطور تايتوس)؛ ونشاهد كذلك الأهمية التي يلعبها مجلس الشيوخ في تحديد الإمبراطور، والجوع القاسي الذي ينهش أجساد شعب روما الذي أنهكته الحرب، كل هذه النقاط تُكسب روما هوية حقيقية وتجعل منها شخصية مهمة في الفيلم عوضًا عن موقع الأحداث فقط.
أكثر العناصر جذبًا في هذا الفيلم هو حيويته، عرض المدينة التي تنبض بالحياة والأزياء والاكسسوارات التي تسطع بألوانها البراقة. في مشاهد القتال هناك تنوع في الأحجام من معارك بين جيشين ومعارك بين مجموعة من الأشخاص ومعارك فردية خالصة، وفي هذه المعارك نشاهد تكامل سلس بين المؤثرات البصرية والعملية، لا أنكر أن المؤثرات البصرية تظهر بلون باهت بعض الأحيان مما يلوث واقعية الفيلم، لكن نظرًا لحجم الفيلم وضخامته فهذا أمر متوقع.
بول ماسكال كان أمام تحدٍ ضخم في خلافة راسل كرو، لكن الممثل الشاب يثبت مرة أخرى أنه أحد أهم الممثلين الجدد على الساحة بعد أدواره في مسلسل «أناس عاديون Normal People» وفيلم «Aftersun». يأتي هذا الدور مغايرًا لما اعتاد على تقديمه. فهو يقدم شخصية أكثر خشونة ولكن من دون التضحية بالصبغة الهادئة التي تخفي غضبًا كامنًا تحتها. فهو هادئ وواعظ حتى في أغلب حالاته، وحينما ينفجر فهو ينفجر بكل خلايا جسمه ويبدو كبربري حقيقي متعطش للدماء.
من الناحية الأخرى، يبدو دينزل واشنطن وكأنه أكثر من استمتع في تصوير هذا الفيلم، فهو يعتنق شخصية ماكرينوس اعتناقًا كاملًا، يشمل حتى طريقة حمله لردائه وهو يمشي، النظرات الخاطفة التي يلقيها بكل صمت تبوح بالكثير، وحينما يتحدث فهو يتلذذ بكل كلمة يقولها ويحرص أن الناس لا يتذكرون ما قال فحسب، بل الكيفية التي تحدث بها.
إن كنت سوف انتقد الفيلم فأنا أعتقد أنه كان من الممكن أن يصبح العمل أكثر غموضًا بخصوص هوية «هانو» الحقيقية وماضيه، سواءً كان ذلك في العروض الإعلانية أو أثناء عرض الفيلم. لأن الأثر العاطفي لاكتشاف هويته الحقيقية يكاد يكون معدومًا أثناء كشف ذلك.
من الناحية الأخرى، لم يقدم الفيلم شخصيات مصارعين جانبية كما حصل في الفيلم الأول، وذلك مفهوم نظرًا للكم الضخم من الشخصيات الرئيسية التي يعتمد عليها الفيلم، لكن هذا النقص كان من شأنه إضعاف محيط البطل دراميًا، وفي كل مرة كان يخوض معركة كان الاهتمام معدومًا بكل المصارعين الذين يخوضون هذه التجربة المميتة معه.
حينما سُئل ريدلي سكوت عن حقيقة اعتزال تارانتينو بعد فيلمه القادم، قال إنه «لا يصدق هذا الهراء» وأن على تارانتينو أن «يصمت ويذهب لصناعة فيلم جديد». هذا الشغف السينمائي يبعث على الأمل خصوصًا مع تضاؤل الفرص التي تمنحها الاستوديوهات لهذا النوع من الأفلام. لكن حينما نشاهد مارتن سكورسيزي وجورج ميلر وريدلي سكوت (أصغرهم ميلر الذي يبلغ 79 عامًا) يصنعون أفلامًا هي الأكثر حيويةً في آخر سنتين، هذا لا يدفعنا إلا إلى الإيمان بأن الشغف والإبداع هما المحركان الأساسيان لأي عمل فني، لأن هذا الثلاثي استطاع الصمود أمام الزمن والتكنولوجيا وتغير ذائقة الجمهور.
اقرأ أيضا: «طعم الأشياء».. مذاق العشق ورحلة الحواس