يبدأ فيلم «ثقوب» للمخرج السعودي عبد المحسن الضبعان بوعد واضح أن الصورة وتنسيق المشاهد سيكون لهما دور كبير في سرد الحكاية المقبلين عليها.
يبدأ الفيلم بلقطة تأسيسية خالية من البشر، نرى فيها باب غرفة نوم يستند إليه كرسي وعصا من عصي المشي التي يستخدمها عادة كبار السن. نلاحظ تروٍ وغموض يكتنفان البطل “راكان” الذي تحيط به الهموم وتثقل كاهله. لا نعلم تمامًا لمَ هو مهموم لكن نستطيع استنتاج أن الحالة المادية المتواضعة التي يعيشها مع زوجته ووالدته، واحدة من الأسباب. يستأجر راكان منزلًا مقابل ثلاثين ألف ريال سنويًا، هذا المنزل الذي يلتهم إيجاره مدخوله المحدود، يتوسط أحد جدرانه ثقب ضخم لا يمكن تجاهله، لكن بسبب هذه الهموم – حسبما نظن في تلك المرحلة من الفيلم- لا ينتبه راكان إلى هذا الثقب.
تتمحور قصة الفيلم حول حياة راكان بعد خروجه من السجن بعد فترة من الاعتقال بسبب تورطه بقضية تطرف ديني، وما يترتب على هذا السجن من تدهور في الأحوال المادية والنفسية له ولأسرته.
راكان خرج إلى مجتمع قفز سنوات ضوئية فكريًا وماديًا مقارنة بحالته، يحاول أن يرتقي سلم الطبقات الاجتماعية عن طريق عمله في ورشة إصلاح سيارات والإشراف على عمال مقاولات، يقفز بين الوظائف ويجتهد لتوفير حياة كريمة لأسرته الصغيرة.
مع الوقت، يبدأ الفيلم بنثر التلميحات التي توضح الماضي المظلم الذي عاشه البطل. ولا أبالغ إن قلت أن طريقة الفيلم بعرض هذه التلميحات تعبر عن نضج قصصي وإدراك لتعدد الأدوات السردية في حوزة صانع الأفلام.
تشاهد زوجة راكان صورة قديمة له بلحية كثيفة توصلنا مباشرة إلى ماضيه المتشدد دينيًا، نوباته العصبية التي تأتي فجأة هي أكبر توضيح على اضطرابه النفسي الذي يُعتبر في نطاق أكبر أسئلة الفيلم، هل راكان يمتلك أخًا توأمًا أكثر عصبية وحِدَّة وهو صاحب الماضي المشؤوم؟ أم أنه شخص يعاني من ازدواج شخصية حاد؟
لكن يمكننا استشعار قلق صناع الفيلم من عدم وضوح التلميحات والسرد البصري الذي اجتهدوا في تنفيذه، فبعد كل عملية سرد بصري متمكنة تحترم ذكاء المشاهدين وانتباههم للتفاصيل أمامهم، يأتي مشهد محبط يعيد فيه الحوار سرد جميع التفاصيل التي كان يمكن استنباطها من المشهد السابق. أذكر مصطلح “محبط” لأنه من غير المنطقي أن توفر جميع الأدوات التي يمكن للمشاهد من خلالها الإجابة على الأسئلة التي طرحتها عليه، ثم في المشهد التالي مباشرة تقدم له الإجابات بالكامل. مشاهدة صورة قديمة لراكان بلحية كثيفة كافية لمعرفة ماضيه المتشدد، لمَ الحاجة إلى مشهد يلتقي فيه راكان بزميل زنزانة سابق يناديه باسم «أبو مصعب» ويتحدثون عن لحيته في الماضي؟ تخيل أن في كل مشاهد فيلم “الحاسة السادسة The Sixth Sense” كان الطفل «كول» يسأل من حوله هل يمكنهم مشاهدة الطبيب برفقته أم لا؟ إن الأمر بهذه السخافة.
قد ينبع هذا القلق من عدم الثقة بردة فعل الجمهور والخوف من سوء استقبال الفيلم، ولكن هذا القلق غير منطقي لسببين؛ فصناعة الفيلم -والفن بشكل عام، يجب أن تتم لأجل صناعة الفن وألا تتحكم توقعات الجمهور والنقاد في صناعة العمل الفني. هناك أعمال سينمائية عظيمة لم تلق استقبالًا حسنًا في وقت صدورها، ولم يعرف الجمهور قيمتها إلا بعد عدة سنوات. السبب الآخر هو أن هذه المحاباة وإطعام المشاهدين الأجوبة قسريًا لا تأخذ في اعتبارها ذكاء الجمهور الذي لا يزال متعطشًا للأعمال السعودية، ومستعد لتلقي تجاربها المختلفة على تنوع رسائلها وطرق السرد فيها.
الحوارات التفصيلية التي تشرح أحداث الفيلم كان ضررها مزدوجًا، لأنها أصبحت حوارات آلية لا تخدم أي مغزى سوى شرح القصة. لا يوجد أي ثقل محسوس في الحوارات، لا توجد مشاعر إنسانية على الإطلاق سوى في بعض الحالات النادرة مثل سؤال أم راكان عن موقع البيت المستأجر وهل سوف يكون ابنها قريبًا منها أم لا. ما عدا هذه الحالات النادرة فأنت تشعر أنك أمام حوارات لعبة بلاي ستيشن، لعبة تطالبك بضغط الزر مرة تلو الأخرى حتى يمكنك التقدم بالحوارات والقصة حتى تنتقل إلى جزء اللعب.
لا أستطيع لوم الممثلين على بعض الأداءات الباهتة لأنه من الصعب تقديم أي أداء في ظل نص مجوف وخالٍ من الروح، أداء مشعل المطيري في تأدية الدور كان بدون أي مردود مهما كانت اجتهاداته ومحاولاته الدؤوبة. في نهاية الأمر، من المحبط إدراك كيف يمكن تغيير الفيلم بالكامل بمجرد حذف بعض الحوارات التي كانت لا تثق بذكاء المشاهدين وتسرد لهم الأحداث جملةً وتفصيلًا.
كان من الممكن أن نشاهد عملًا يخاطب فئة كبيرة من المجتمع. بينما لا توجد هناك شريحة كبيرة من المجتمع ممن دخلوا السجون بسبب التطرف الديني، إلا أن هناك العديد من الأفراد الذين يواجهون أزمة انتماء في محاولة إيجاد مكان يضمهم، لأن المجتمع يتحرك ويتطور بسرعة غير مسبوقة. لا يمكن اختزال «راكان» في شخص متدين سابق ترك التدين بعد سجنه، لأنه يعيش مشاكل مجتمعية أخرى مثل التفاوت الطبقي المتزايد، والصراع النفسي الساحق بين محاولة الاستقلال بأسرته الصغيرة وبين رعاية والدته كبيرة السن، وفي خضم كل ذلك عليه أن يحسن تربية ابنه الذي يتلقاه الشارع بأذرع مفتوحة في كل مرة يخرج فيها من المنزل.
“ثقوب” فيلم بدأ أولى لقطاته واعدًا الجمهور بسرد مختلف ومتميز كاد أن يقترب به من صنف الأفلام عالية الفنية التي تحظى عادة بتقدير محبي السينما، لكنه سرعان ما طالته الآفة التي نلاحظها في كثير من الأفلام السعودية، فهو يسلط الضوء على مشكلة الأفلام السعودية في غرفة المونتاج، والتي تنطلق من تمسك صناع الأفلام بجميع أفكارهم والكبرياء الذي يصل حدًا يطغى على سلاسة الفيلم وسرعة سرده.
اقرأ أيضا: خريطة فاصلة لمشاهدة أفلام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي