فاصلة

حوارات

تيري فريمو مدير مهرجان كان لـ«فاصلة»: أفضل درس للسينما المعاصرة هو البساطة

Reading Time: 12 minutes

في الأسبوع الثاني من شهر أبريل من كل عام، تتجه أنظار محبي السينما والعاملين بها نحو مشهد يتكرر بدقة كنبض الساعة: رجل واحد، يخطو بوقار يليق بالمناسبة، مرتديًا معطفًا يظهر تحته قميص بسيط من دون ربطة عنق، وأمامه ورقة ينتظرها المبدعون والمخرجون، وبصوت يحمل ثقل القرار، ينطق أسماء الأفلام المختارة، يحلم معظم صناع السينما حول العالم بأن تكون إبداعاتهم ضمنها، ليلجوا من البوابة التي تضمن لأفلامهم الانتشار. بمجرد انقضاء هذا المشهد وطي بطله لورقته، تتمحور صناعة السينما حول الافلام المختارة، وتبدأ خلية نحل محمومة، فتنهال الاتصالات من رجال المبيعات والموزعين الذين يتحركون كأنهم في سباق مع الزمن، وتصل العروض المالية إلى ذروتها.

في الأثناء، يستعد النقاد كفرسان يشحذون أسلحتهم، عيونهم تترصد التفاصيل، وأقلامهم جاهزة لطرح الأسئلة الحاسمة: لماذا اختير هذا الفيلم؟ ولماذا دخل الآخر المنافسة؟ إنها منصة هائلة قد تُصنع فيها الأمجاد أو تُكشف العيوب، حيث يُولد المبدعون العظماء أو يُختبر صمودهم. إنها ساحة شاسعة، تتأرجح بين أن تكون أرضًا لتحقيق الأحلام للبعض أو ساحة قصاص يُحاكم فيها الفنانون وأعمالهم أمام أعين العالم.

بطل هذا المشهد الذي يحركه ويعطيه إشارة البدء، ذلك الوقور صاحب الورقة، هو تييري فريمو، المدير العام لمهرجان كان السينمائي ورئيس لجنة الاختيار، الرجل الذي يعتقد الكثيرون أنه يحمل مفتاح الحلم لصناع السينما. إضافة إلى دوره هذا، يشغل فريمو أيضًا منصب مدير معهد لوميير، المتحف الذي يكرم إرث الأخوين أوغست ولوي لوميير، مخترعي السينما وروادها الأوائل، والذين يصفهما فريمو بأنهما: «المخترعين الأخيرين وصانعا الأفلام الأُوَل».

تيري فريمو
تيري فريمو

في الدورة الأخيرة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي، عرض فريمو فيلمه الوثائقي الثاني عن لوميير بعنوان «لوميير: وتستمر الرحلة»، وهو استعادة سينمائية لأعمال الأخوين لوميير. حيث سبق أن عرض فريمو فيلمه الوثائقي الأول في النسخة الأولى من مهرجان البحر الأحمر، ويواصل عبر هذه الأعمال تسليط الضوء على الإرث العميق للسينما.

تيري فريمو
فيلم «سينما لوميير» ( 2024)

بهذه المناسبة، أجرينا لقاءً خاصًا مع تييري فريمو للحديث عن السينما، وعن الأخوين لوميير وإرثهما، وتأثيرهما على السينما العالمية، إلى جانب مناقشة قضايا معاصرة مثل تأثير المنصات الرقمية على صناعة السينما، ووضع النقد السينمائي في ظل وسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى الحدث الأبرز: مهرجان كان السينمائي.

هذا اللقاء مميز بالنسبة لي، لأن أول فيلم شاهدته في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في النسخة الأولى كان فيلمك «لوميير» منذ حوالي أربع سنوات، ثم ذهبنا معًا لمشاهدة فيلم «بيروت لي فو» للمخرج جان لوك غودار.

 أجل! لقد كنت معك، وكان السفير الفرنسي في المملكة العربية السعودية رفقتنا

وقمت حينها بتقديم الفيلم مع فيديو بسيط قبل العرض وداعيًا لروح جان بول بيلموندو الذي رحل قبلها بثلاثة أشهر.

أتعلم؟ غريبة تلك العلاقة التي يربط بها العقل بين المكان والأفلام. في كتابي الأخير، «الطريق إلى أول فيلم Rue du Premier Film»، أتحدث عن ذلك المكان في ليون، حيث وضع الأخوان لوميير كاميرتهم للمرة الأولى. هذا الكتاب ضمن سلسلة كتب أنتوي إصدارها، تتحدث عن قضاء ليلة واحدة في مكان معين. وكان المكان هذه المرة هو متحف لوميير. وخلال تلك الليلة، عرض فيلمين. الأول كان «جيش الظلال» لـ جان بيير ميلفيل، والثاني كان مؤلفًا من أفلام الأخوين لوميير.

هذا يستدعي إلى ذهني سؤال: هل يمكن تحقيق التوازن في المهرجانات بين استعادة جذور السينما الأولى واستكشاف الإبداع السينمائي الجديد؟ 

طبعًا؛ هناك دروس كثيرة يمكن أن تفيد بها السينما المعاصرة من خلال الأعمال السينمائية الاستعادية كفيلمي عن الاخوين لوميير، ربما أفضل درس للسينما المعاصرة هو البساطة. كما كانت أفلام لوميير في بداية السينما. في البداية لم يكن لدينا شيء، كان عليك اختراع كل شيء، كان عليك رسم الطريق وطرح الفكرة. وكانت فكرة لوميير حقًا هي أخذ الكاميرا وتسجيل الحياة بشكل مختلف عن الكتابة والتصوير الفوتوغرافي، وما إلى ذلك.

لذلك، كل لقطة مدتها 50 ثانية مهمة.  علينا أن ننظر لها نظرة الفيلم المكتمل فيكون لها إطار، معالجة للموضوع، واعتناء بالفكرة، ففي كل لقطة هناك فكرة سينمائية، وهذا ما ذكرته في الفيلم

أتذكر قول غودار : «إذا أردت أن تعيد اختراع اللغات، فعليك أن تلتقي بمن ليس لديهم لغة». لذلك كان على لوميير أن يخترعا لغتهما الخاصة. وفي أعوام 1895، 1896، و1897، قدما لنا ما اخترعاه وكان هو بالضبط ما نعيشه حتى الآن، أن نتكلم ونحي ونعرض العالم من خلال الصور، من خلال الصور المتحركة على وجه الخصوص. وقتها لم تكن الكاميرا بإمكانها التحرُّك، لذلك وضعاها على القطار، أو على القارب، وهكذا. لكن مرة أخرى، وهذا هو المعجزة في الأفلام الصامتة، عليك فقط أن تشاهدها بشكل صحيح، دون أي شيء يشوش انتباهك. إنها أفلام قصيرة صامتة ولكن كل منها يحوي الكثير مما يمكن أن نشاهده وننفعل به، وهذا هو سر نجاحهما

وكيف ترى دور الأخوين لوميير في تشكيل السينما كفن، ليس فقط كاختراع تقني، بل كوسيلة إبداعية لخلق الواقع الإنساني؟

أردت من فيلمي أن أقول أن لوميير هما خاتمة المخترعين، هما آخر من أتى بجديد. هناك الكثير من المخترعين قبلهما. لكن بعدهما؟ لا أحد. لأنه بمجرد أن قدما لنا فكرة الصور المتحركة انتهى الأمر.

لوميير هما آخر المخترعين وأول صناع الأفلام، وهذا كان منسيًا تمامًا. الناس كانوا يقولون: «حسنًا، لوميير كانا مجرد مخترعين، وكل شيء بدأ مع جورج ميلييس». لا، لا، لا. لوميير هما روسيلليني، وميلييس هو فيليني. لوميير يأخذان الواقع كما هو ويضعاه في الكاميرا، وميلييس يعيد اختراع الواقع من خلال الوهم، والسحر، والعديد من الأشياء الأخرى.

لكن واقع لوميير هو العالم. أفلامهما لم تكن عن الأجداد أو الأسلاف. إنها عنا نحن. الأشخاص الذين ظهروا في أفلام لوميير منذ 130 عامًا هم نحن، هي نفس الإنسانية.

وكان حكيهما من أماكن مختلفة أيضًا 

 نعم. ولهذا أنا فخور جدًا بأن أكون هنا في مهرجان البحر الأحمر. كنت في بوينس آيرس (عاصمة الأرجنتين) الأسبوع الماضي لعرض نفس الفيلم الذي يتناول أماكن ربما لم يرها غالبية من شاهدوا الفيلم في المدينتين (بوينس أيريس وجدة)، هذا يثبت أنه ومنذ البداية، وبفضل الأخوين لوميير، أصبحت السينما عالمية. السينما وسيلة لفهم العالم، وليس فقط فرنسا أو ليون أو باريس. لقد أرسلا أشخاصًا إلى جميع أنحاء العالم. وعلى الفور، فهم الجمهور في ذلك الوقت ما كان عليه العالم بقوة السينما. أفلام تم تصويرها في اليابان، في مصر، في الجزائر، في المغرب، في نيويورك، وفي المكسيك. وكانت بذلك وسيلة لرؤية الكوكب.

ومنذ البداية، كانت السينما مشروعًا عالميًا بالكامل، وما زالت كذلك. ولهذا كنت أقول إنني سعيد بوجودي هنا، كما كنت سعيدًا بوجود الفيلم السعودي نورة في مهرجان كان، والفيلم الصومالي القرية بالقرب من الجنة، وكما كنت سعيدًا عندما جاء أبيشاتبونغ في سنة 2001 او 2002 بفيلمه الذي لا يحضرني اسمه

تقصد Blissfully Yours

 أجل هو هذا، وكان أول أفلامه كصانع أفلام تايلاندي. صانع أفلام تايلاندي عظيم بالنسبة للعالم، وليس فقط «عظيم بالنسبة لتايلاند»

إنه واحد من أعظم صناع الأفلام الذين يعيشون الآن

بالفعل! ولهذا أفلام الأخوين لوميير ليست أفلامًا قديمة. أنا لا أؤمن بمفهوم «الأفلام القديمة». هل نقول عن مسرحيات شكسبير إنها قديمة؟ لا. هل نقول عن مؤلفات موزارت إنها قديمة؟ لا. إذًا لماذا نقول ذلك عن الأفلام؟ لا يمكنك العثور على أي فيلم أقدم من أعمال شكسبير، أليس كذلك؟ والسينما لا تزال فنًا شابًا.

لكن كما تعلم، عندما سيشاهد الجمهور فيلمك، سيكون أحد أول الأسئلة التي سيسألونها هي: ما الشيء الذي دفعك لصنع جزء ثانٍ إن صح التعبير للفيلم الذي صنعته عام 2016؟

لست متأكدًا إذا كان يمكن اعتباره جزءًا ثانيًا. أولاً وقبل كل شيء، هو أمر تقني. لدينا 2000 فيلمًا في معهد لوميير سيعرضون للمرة الأولى، و1500 فيلم يشكلون الكتالوج الرسمي للمعهد و500 فيلم آخرين أكثر أو أقل رسمية، بعضها مدرج في بعض القوائم أو الكتالوجات. لذا لدينا الكثير لنقدمه. وواجبي، كرئيس لمعهد لوميير، هو إعادة هذه الأفلام إلى العالم عن طريق ترميمها.

كما ترى، هذا أمر مذهل. بعض هذه الأفلام رائعة، بل أفضل حتى من الفيلم الأول، لأنني في الفيلم الأول جمعت الأفلام الأكثر شهرة للأخوين لوميير، أليس كذلك؟ في هذا العمل، لا، إنه جديد تمامًا. الكثير من الأفلام الجديدة لهما التي لم يرها أحد من قبل، حتى أنها بالنسبة لي كانت اكتشافًا، أنا أعرف بوجودها بالطبع؛ ولكن لم أكن قد شاهدت بعضها بكامل بهائها، فكما تعلم ترميم الأفلام يظهر جمالها الحقيقي، قوة الأبيض والأسود، وتركيز الصور. إنها جزء من التراث السينمائي العالمي للبشرية.

تيري فريمو
فيلم «سينما لوميير» (2024)

كيف أثرت عملية ترميم هذه الأفلام وإعادة احياءها على رؤيتك لما يمكن للسينما أن تكونه في عالمنا اليوم؟ 

الحقيقة كان ترميم أفلام الأخوين وجمعها وصناعة فيلم من خلالها (في جزئين) هو المشروع الأول، ثم أصبح الأمر معقدًا وعلى أن أفكر مطولًا فيما يمكن قوله أو فعله. أردت أن أقول الشيء نفسه

العام القادم 2025، هو ذكرى مرور 130 عامًا على اختراع السينما، لذلك هذا شيء نريد تسليط الضوء عليه أيضًا، خاصة لأن الفيلم الأول عن الاخوين لوميير كان قبل سبع سنوات. وخلال تلك السنوات السبع تغيرت السينما كثيرًا، حيث أصبح لدينا المنصات الرقمية على اهتمامها الواسع بالسينما

وبناء عليه أصبحت السينما نشاطًا مختلفًا جدا عما اخترعه الأخوين لوميير. السينما بدأت فنًا متخلصًا من اعتبارات كثيرة: في صباح أحد الأيام، يكون لدى صانع أفلام فكرة عن لقطة ما ويتصل بالمنتج: «تعرف ماذا؟» يمكننا أن نبدأ. إنه ليس مشروعًا تجاريًا، بل مشروع فني. والاختراع الآخر للأخوين لوميير هو غرفة العرض، قاعات السينما. ومع الوقت، لدينا الآن المزيد والمزيد من المنصات. إنها جزء من حياتنا بالتأكيد، لكن هنا منبع الخلاف بين توماس أديسون والأخوين لوميير، كان إديسون يسعى إلى جعل مشاهدة الصور المتحركة تجربة فردية، تعرض عبر جهاز يشاهدها كل شخص بمفرده، بينما أراد الأخوان لوميير أن تكون التجربة جماعية، تُعرض على الشاشة الكبيرة أمام الجمهور.

لقد بدأت السينما بهذه الفكرة: علينا إخراج الصورة ووضعها على الشاشة الكبيرة، ومع الوقت، وكان هذا أهم ركن في اكتمال عملية صناعة الشريط السينمائي، الآن اختلف الوضع كليًا.

 وكيف ترى العلاقة بين السينما كتراث فني، وبين المبادرات الحديثة في الدول التي تتبنى السينما كجزء من رؤيتها المستقبلية، مثل ما نعيشه الآن في السعودية؟ 

أنا سعيد جدًا لرؤية أن هذه الدولة، التي هي بطريقة ما قديمة وجديدة تمامًا في الوقت نفسه، لديها مشروع للحداثة والسينما جزء من هذا المشروع. لديكم مهرجان سينمائي هنا، ولديكم هيئة الأفلام. وهناك جيل جديد من صناع الأفلام. فالسينما ليست شيئًا من الماضي، بل هي شيء من الحاضر

في زيارتك الأولى للمهرجان، قلت إننا (في السعودية) أمام تحدٍ حقيقي ومهم في تقديم شيء مختلف وتلبية احتياجات سينما هذه المنطقة سواء من ناحية الصناعة، أو حتى على مستوى المهرجانات. كيف تقيم الوضع الآن بعد أربع سنوات؟  

في زيارتي تلك، أتذكر أنني اجتمعت مع منتجين شباب، وكنت منبهرًا جدًا بحماسهم، واتساع معرفتهم، وحماسهم لمشاريعهم الخاصة. وبعد أربع أو خمس سنوات، يمكنني أن أشعر أن هناك شيئًا في الأجواء في هذا البلد يتعلق بالسينما، وأرى فيه أرضًا جديدة تعد بالخصوبة. وكما أنني أيضًا من مهرجان كان، فإن التحدي الوحيد هو صنع أفلام جيدة، وتقديم فنانين للعالم، صناع أفلام بالطبع، ممثلين وممثلات. وأعتقد أن الحوار بين السينما العربية بشكل عام، ليس فقط شمال إفريقيا، ولكن في جميع النواحي العربية، يحمل الكثير لنتعلمه. ولكن الأمر أيضًا بين أيديكم، في انتظاركم في كان.

نورة - مهرجان كان 2024
فيلم نورة – مهرجان كان 2024

بالحديث عن كان، دعنا نسلط الضوء قليلًا على المهرجان، بعد سنوات من العمل في أروقة كان صرت مديرًا له في 2007، ما الذي شهدته يتغير على مدار تلك السنوات، خاصة فيما يتعلق بالأولويات والمسؤوليات التي يحملها المهرجان تجاه صناع الأفلام في العالم؟ 

هذا سؤال مهم للغاية. هناك تغييرات كثيرة كانت شاهدًا عليها أو جزءًا من صناعتها على مدار تلك السنوات، أنا أولاً وقبل كل شيء، شخص شغوف بالسينما، لا أبذل أي جهد لأحب أي نوع من السينما. يمكنني أن أحب الأفلام الشعبية أو السينما الراديكالية. هذا طبيعتي. بالطبع، أنا لا أخلط بين الأفلام الشعبية وغيرها، ولكن صناع الأفلام العظماء في تاريخ السينما مثل تشارلي شابلن، كوروساوا، كوبريك، وجون فورد كانوا أيضًا شعبيين جدًا. وما زلنا نملك نماذج شبيهة مثل مارتن سكورسيزي أو جاك أوديار كمخرج فرنسي معاصر. هم أيضًا شعبيون. ومقترحاتهم داخل السينما مثيرة. نعم. فالسينما دائمًا تهدف إلى دفع الحدود فيما يتعلق بالمناطق. ولهذا مرة أخرى، أنتم أحد تلك المناطق التي ننتظرها، وكذلك أمريكا اللاتينية وما إلى ذلك. ودفع الحدود أيضًا داخل ما تعنيه السينما اليوم. وذكرتَ المنصات على سبيل المثال، والمسلسلات.

المسلسلات غدت مكونًا مهمًا في الثقافة الشعبية الفرنسية مثلا، وهي تتمتع بقوة كبيرة دائمًا فيما يتعلق بالسرد، السيناريو، الممثلين، والحوار. وهذا في رأيي من شأنه أنه يوقظ السينما على هذه الأمور

ولكن السينما تظل نموذجًا فريدًا، وفي مواجهة التغييرات التي تحدث في أساليب العرض وتفضيلات الجمهور علينا أن ننتبه إلى مسؤوليتنا في إدارة هذا التغيير وانعكاساته، خاصة وأنه لا يزال ضمن لغة السينما، ومرتبطًا إلى حد ما بتاريخها؛ أي كيفية سرد قصة باستخدام الكاميرا، مع الممثلين، الحوار، والسيناريو. هذا ليس فنًا معاصرًا، بل هو شيء خاص بالسينما. ولا تنسَ أنه في العشرينيات لم تكن هناك مسلسلات، ولكن كان هناك «سيريال». نعم، في عصر الأفلام الصامتة، كان الناس يذهبون لمشاهدة ثلاثة أفلام، كل منها مدته 15 إلى 20 دقيقة

تيري فريمو
تيري فريمو – مهرجان كان 2024

ولكن على صعيد اختيار الأفلام المشاركة في المهرجان، كيف تتعاملون مع السينما المنبثقة عن تلك التحولات السريعة في المفاهيم وتقنيات العرض وعلاقة الجمهور بالشاشة، بل وعلاقته بالفيلم قبل وبعد المشاهدة والتي تظهر عبر الشبكات الاجتماعية؟

أنا فخور جدًا بأن أي نوع من الأفلام مرحب به في مهرجان كان. على سبيل المثال، مونتي كريستو دوق مونتي كريستو كان ضمن الاختيار الرسمي، لكنه لم يكن في المسابقة بالتأكيد لأن المسابقة تتعلق بالأشكال الفنية. مونتي كريستو فيلم جيد جدًا في إطار السينما الكلاسيكية، ولكنه فيلم مميز. ونحن بحاجة إلى هذا النوع من الأفلام لأن الأفلام الكبيرة تحمي الأفلام الصغيرة، والسينما الشعبية تحمي السينما الراديكالية. نحن بحاجة إلى المال وهذا يأتي عبر الجمهور والمشاهدين، والنجاح الجماهيري مهم في السينما لجعل السينما تستمر كواحدة من أفضل الأنشطة التي يقوم بها الناس في العالم اليوم. وعندما يكون لديك أفلام مثل باربي أو أوبنهايمر أو مهمة مستحيلة، فإن ذلك مهم جدًا لأنه يعيد الناس إلى دور العرض، ومن ثم فإنه بطريقة ما يحمي هؤلاء المخرجين الذين يصنعون شيئًا ليس للجمهور العام، ولكنه يظل مهمًا جدًا أن يكون موجودًا.

إنه مثل الأدب؛ ليس لديك دائمًا كتب مؤهلة للحصول على جائزة بوليتزر أو جائزة غونكور (جائزة فرنسية رفيعة تمنح للأعمال الأدبية المميزة). لديك أيضًا كتاب وروائيون يقدمون شيئًا شخصيًا للغاية قد لا تحقق نجاحًا جماهيريًا، لكنها صوت مهم وعلامات في تاريخ الأدب. مثلا عندما نشر مارسيل بروست أعماله، لم تحقق نجاحًا كبيرًا في زمنه، لكنها اليوم تُعد ضمن عيون الأدب الفرنسي. وهذا أمر في غاية الأهمية.

ثم علينا أيضًا التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي، التي لا تتعامل مع السينما بنفس التقدير عند الحديث عنها، الآن أصبح الأمر مجرد ثلاث جمل.

كما تعلم، أنا قادم من حب النقد السينمائي، حيث كانت قراءة مقال مثل الذهاب إلى الكنيسة. لكن للأسف، هذا قد تغير.

مهرجان كان
مهرجان كان (2024)

وهذا ما قد يتم اعتباره بأن لدى المهرجان دورا في مكافحة هذا الأمر لدعم هذا النوع من المقالات، وفي هذا السياق، أتذكر العام الماضي ٢٠٢٣، قمتم باختيار مجموعة كبيرة من الأفلام التي تتجاوز مدتها الثلاث ساعات يأتي الى ذهني الآن فيلم ستيف ماكوين (مدينة محتلة) أو فيلم وانغ بينغ (صبى)، أو حتى الفيلم الأرجنتيني (الجانحون) لرودريغو مورينو، وغيرها الكثير، هل تعتقد بأن صناع الأفلام لديهم هذه النزعة لجعل السينما شيئًا مميزًا في الثقافة البصرية المعاصرة وذلك في ظل هدير الصور السريعة لليوم؟

ربما وبشكل جزئي، لكنني لا أعتقد أن الطول أو القصر في الفيلم سيكون اعتبارًا أساسيًا لتفضيل واحد على آخر، من ناحيتي قد يعتمد الأمر على سينما اليوم ونوعية الأفلام ذلك العام. حيث أن هناك أفلاما قصيرة أو مدتها 90 دقيقة تكون مملة، وهناك أفلام مدتها ثلاث ساعات تكون رائعة ومثيرة ومشوقة للغاية. ولكنك على حق، على حق. قد يكون لدى المهرجانات دور في تأكيد ذلك، وما ذكرته مرتبط ارتباطا جذري بتاريخ السينما، ففي وقت ما، ليس فقط في نظام استوديوهات هوليوود بل في كل مكان، كان هناك حوار بين المنتجين وصناع الأفلام، بين الصناعة والفن بهذا الشأن. وأحد مخرجيّ المفضلين هو مخرج أفلام الغرب الأميركي، بود بوتيتشر، لكن المثير للاهتمام أن أفلامه مدتها ساعة و20 دقيقة، أو ساعة و17 دقيقة. وفي ساعة و17 دقيقة، تجد كل شيء، تجد العالم بأكمله.

إنها تحف رائعة بالفعل، وخصوصًا أفلامه مع أرنولد سكوت. حسنًا دعنا نتحدث عن الاختيارات، لكن من منطلق آخر، عندما تختارون فيلمًا للعرض أو التسابق في مهرجان كان، كيف تعكس الاختيارات منهجيتكم ورؤيتكم للسينما العالمية؟ وما النصيحة التي يمكن أن تقدمها لصناع الأفلام السعوديين الذين يطمحون للوصول إلى الكروازيت (قصر المهرجانات في كان)، والأهم من ذلك للجمهور العالمي؟ 

أولاً وقبل كل شيء، عليهم أن يعرضوا لنا أفلامهم، أي فيلم يتقدم للاختيار في مهرجان كان يخضع للمشاهدة. نحن فريق مكون من 10 أشخاص نشاهد الأفلام.

يتقدم لنا حوالي 2000 فيلم روائي طويل كل عام. وكل فيلم يتم منحه نفس القدر من الاهتمام، مثل آخر فيلم لفرانسيس فورد كوبولا. نحن نولي الاهتمام لأن هذا هو عملنا. فلا يمكنك أن تخمن أي فيلم سيصادفك هو فيلم المخرج العظيم القادم. أتذكر أنني تلقيت فيلم «Blissfully Yours» بكل سرور على شريط فيديو (VHS) في سنتي الأولى. لم يكن أحد يعرف مخرجه حينها. لذلك، أول خطوة هي تقديم الفيلم.

بالطبع، نحن نشاهد 2000 فيلم، ولكن الاختيار الرسمي يستقر على حوالي 60 فيلمًا فقط، ومن بين هذه الأفلام، 20 فقط تكون في المسابقة. أما الباقي، فذلك يعتمد على عدة عوامل. النصيحة ما زالت كما قالها جون فورد: «كن شخصيًا، وستصبح عالميًا». هذه هي السينما تمامًا. لنعد هنا إلى الأخوين لوميير، الشخصيات في أفلام لوميير لم تكن مجرد شخصيات فرنسية، بل بشر. عندما صوروا أشخاصًا فرنسيين، أو يابانيين، أو مغاربة، كانوا جميعهم يمثلون سكان الأرض. السينما ما زالت تعكس هذا المفهوم. بفضل السينما، أستمر في تعلم المزيد عن العالم. أتذكر عندما كنت طالبًا في الثانوية أستعد لاختبار البكالوريا، كان من ضمن البرنامج الدراسي تاريخ القرن العشرين. لم يكن منهجًا صعبًا لأنني ببساطة كنت أشاهد الأفلام، وتعلمت منها الكثير. تعلمت تاريخ القرن لأن مشاهدة الأفلام كانت أكثر تأثيرًا وفعالية من مجرد القراءة.

أتفق معك، عندما أحاول أن أسترجع أفضل اللحظات التي عشتها أثناء مشاهدة الأفلام، خصوصًا في المراحل المبكرة، أتذكر الأفلام التي كانت من أماكن بعيدة؛ في بورا بورا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية، والأهم تلك الدهشة في اكتشاف بشر مختلفون، قد يرون الأشياء كما نراها

فعلاً! وهذا ما نطمح إليه، فنحن لا نعرف ما لم نلتقِ به أبدًا، ولم نلتقِ برعاة البقر والسكان الأصليين لأمريكا، لكنني أنا وانت نعرف تمامًا من هم بفضل السينما.

وما زلت مقتنعًا بأنه عندما تذهب لمشاهدة فيلم في السينما، بعد ساعتين فقط، تصبح شخصًا مختلفًا عما كنت عليه قبلها لأنك شاهدت فيلمًا. ولهذا علينا أن نهتم بالسينما ليس فقط كفن، بل كشيء فريد من نوعه. وأنا ما زلت أؤمن بأن السينما أكثر من أي وقت مضى هي شيء لا مثيل له. نحن بحاجة إلى المزيد من الأفلام. عندما تكون هناك أفلام، يذهب الناس تلقائيًا إلى السينما، ولكننا نحتاج أكثر وأكثر، وفي السعودية أشعر بوجود الكثير من الدعم للإبداع وصناعة الأفلام، إلى دعم دور السينما وثقافة السينما. 

قلت أن السينما كانت دائمًا أداة لتوسيع الآفاق وفهم العالم بشكل أفضل، سواء من خلال حراك السينما العالمية أو حتى في عرض التاريخ المُصور. كيف ترى السينما اليوم كوسيلة لخلق هذا الشعور العالمي في ظل هيمنة الإنترنت والمنصات الرقمية التي بلا شك أصبحت تخلق ذلك وبشكل مسبق؟ 

لهذا السبب فالتعليم أمر أساسي. لأن الأمر لا يقتصر عليّ أو على جيلي. ربما كنت من الجيل الأخير الذي كان أول اتصال له مع الصور المتحركة من خلال السينما. في ذلك الوقت، كان التلفزيون شيئًا بسيطًا جدًا. الآن، أول اتصال للجيل الجديد مع الصور هو عبر التلفزيون، الإنترنت، وغير ذلك. وتلك الصور على الإنترنت غير خاضعة للرقابة. كما تعلم، هناك أسطورة أفلام القتل الواقعي (أي تصوير وقائع قتل حقيقية وعرضها في أفلام). لا نزال لا نعرف إن كانت موجودة أم لا. لكنك لن تجد أي فيلم في العالم يُعرض في دور السينما يتضمن موتًا حقيقيًا، كما قد يراه البعض على الإنترنت

وهي صادمة بالفعل.

إذن، السينما لديها أخلاقيات وكرامة. هناك اتفاق أخلاقي على أننا لا يمكننا الإبداع عبر استخدام الكاميرا كوسيلة لارتكاب الجرائم. الكاميرا مثل القلم، كما تعلم، لديك مسؤولية وهذا ما لا يمكن السيطرة عليه أو فرضه عبر الإنترنت.

كما حدث في فيلم منطقة الاهتمام The Zone of Interest

بالضبط! انظر إلى هذا الفيلم «منطقة الاهتمام The Zone of Interest» والموجة التي أحدثها العام الماضي. هذا دليل على أن للسينما أن تعرض أهوال ما فعله النازيون اليوم من خلال الخيال. إنه أمر معقد. إنه ليس خيالًا، لقد حدث بالفعل. لكن الفيلم مبني على كتاب رائع. وكان ذلك وسيلة للاستمرار في الحديث عن تلك الأحداث، وتقديم تصور لما كان عليه كل ذلك. وأنت تذكر نهاية الفيلم جيدًا، ما حدث في الاعلان التجاري يجعلنا بحاجة إلى أن نكون حذرين جدًا. ولهذا السبب أعتقد أنه كلما زادت المنصات على الإنترنت وما شابهها، وكلما أصبح العالم يتواصل أكثر بالصور وتطبيقات مثل تيك توك، ستعود السينما لتصبح شيئًا فريدًا مرة أخرى.

اقرأ أيضا: لوميير السينما… السينما اختراع بلا مستقبل

شارك هذا المنشور

أضف تعليق