فاصلة

مقالات

بين الدقّة التاريخية والترفيه أفلام السيرة الذاتية… فَخر الصناعة الهوليوديّة

Reading Time: 4 minutes

يكفي إلقاء نظرة على لوحة إعلانات السينما، أو التعمق في لوائح الأفلام على منصتك الرقمية المفضلة، لتحديد فيلم سيرة ذاتية جديد واحد على الأقل طُرح للتو. لطالما كانت أفلام البيوغرافيا تعطي ثقلًا الصناعة السينمائية، خصوصًا في هوليوود. لكن أهميتها تزايدت مع اكتساب منصّات التدفق الرقمي المزيد من القوة والانتشار. فهل نحن أمام ظاهرة سينمائية تجتاح الصالات والمنصّات؟ أم أنّ السير الذاتية كانت دائمًا تحجز مكانها الأثير في السينما؟

 أفلام السيرة الذاتية

لا شك في أنّ أفلام السير الذاتية موجودة منذ ظهور السينما، ولكن مع انتشار منصات التدفّق الرقمي في السنوات الأخيرة، أصبحت المعالجة الدرامية «التلفزيونية» للسير الذاتية أكثر سينمائيةً على هذه المنصّات (من حيث التعقيد السردي والتمثيل والإخراج والميزانيات الكبيرة). لذلك يمكن أن نلاحظ في الآونة الأخيرة أن هناك رابطًا مشتركًا بين منصات التدفق الرقمي وأفلام السير الذاتية.

في الوقت الحالي، أصبحت أفلام السير الذاتية تنهل من رموز الثقافة الشعبية أكثر من الشخصيات والحوادث التاريخية. تدور هذه الأفلام عامةً حول مشاهير في عالم الترفيه والسينما والموسيقى والسياسة: الحياة الحزينة الفاشلة، والوجود المضطرب والقصص المثيرة للجدل التي تجذب الاهتمام الجماهيري. في السير الذاتية السينمائية، تجتمع الدقة التاريخية والحاجة إلى التمثيل الدرامي، مع تأرجح بين العالم الحقيقي والعالم السردي، والخصوصية والعالمية، بالإضافة إلى إشكالية بروز الفرد في المجتمع.

أفلام السيرة الذاتية

لقد ارتبطت أفلام البيوغرافيا لسنوات بالسينما التاريخية، وتدريجًا أصبحت نوعًا مستقلًا عنها. مع وصول السينما في نهاية القرن التاسع عشر، ظهرت وسيلة جديدة تُحكى من خلالها حياة المشاهير التاريخية مثل كلاسيكية «نابليون» (1927) الصامتة للمخرج الفرنسي آبيل غانس (1889 – 1981)، الذي قال للفنيين والفنانين في «استديو بيانكور» أثناء تصوير الفيلم: «عليكم أن تفهموا جيدًا المعنى العميق لهذه الكلمات. من الضروري أن يسمح لنا هذا الفيلم بدخول معبد الفنون من باب التاريخ العملاق! يسكنني عذاب لا يوصف من فكرة أن إرادتي وهبة حياتي لا تساويان شيئًا إذا لم تعطوني، كلكم، تفانيًا في كل ثانية… أصدقائي، كل شاشات الكون في انتظاركم! لجميع المتعاونين على اختلاف أنواعهم. الجميع! أبطالًا، ثانويين، مصورين، مشغلين، رسامين، كهربائيين، ميكانيكيين، إليكم جميعًا، وخاصة الحشود الإضافية، المتواضعين (الكومبارس)، الذين سيتحملون العبء الثقيل لاستعادة روح أسلافهم، وإعطاء، بروح واحدة، وجه فرنسا الهائل بين عامَي 1792 و1815. أسأل، بل أطلب النسيان التام لأي اعتبارات شخصية تافهة، وتفانيًا مطلقًا. بهذه الطريقة فقط، يستخدمون القضية اللامعة لأجمل فن للمستقبل (السينما)، بفضل أروع دروس التاريخ». 

وقتها كانت أفلام السيرة الذاتية تجمع إلى حد ما بين الدقة التاريخية والحاجة إلى التمثيل الدرامي، والملاءمة بين العالم الحقيقي والعالم والسردي، بالإضافة إلى إشكالية بروز الفرد في المجتمع. بقيت كذلك، وظهرت أفلام بيوغرافية مشهورة مثل «لورانس العرب» (1962) لديفيد لين، و«كليوباترا» (1963) لجوزيف مانكوفيتش، و«الثور الهائج» (1980) لمارتن سكوريزي. هذه القصص وغيرها وجدت بها سينما هوليوود بنيةً تخدمها، لكنها أصبحت صيغةً متكررة مع الوقت. تُسرد طفولة الشخصية المركزية، مع التركيز على الأحداث التي تتنبأ بما سيجعل هذا الشخص متميزًا. ثم يتم سرد مرحلة الصعود، المعارك ضد من يقف في وجه نجاحه، الإخفاقات، المعارك الشخصية. ويمكن أن تكون النهاية عندما يحصل على ما يريد، أو عندما يتعافى من سقوط شخصي أو مهني، أو حتى الوفاة.

في العقد الماضي، سعى كتاب سيناريو ومخرجون عديدون إلى إيجاد طريقة لتجنب تكرار هذه الصيغة والوصول إلى حقيقة الشخصية المعنية، وركّز رواة آخرون على أحداث محددة أساسية لمسار بطل الرواية بدلًا من المراجعة التاريخية. حدث هذا مثلًا في فيلمي «الشبكة الاجتماعية» (2010) و«ستيف جوبز» (2015) وكلاهما سيناريو آرون سوركين، الأول من إخراج ديفيد فينشر والثاني داني بويل. يكشف الفيلمان نقاط ضعف وفضائل الشخصيتين من خلال لحظات معينة ومحددة من عملهما. اختار ستيفن سبيلبيرغ نقطة أساسيةً من سيرة إبراهام لينكولن، أحد الرؤساء الأمريكيين الأكثر ظهورًا في السينما، وهي كفاحه من أجل موافقة الكونغرس على تعديل دستور الولايات المتحدة الأميركية لإلغاء نظام العبودية. وهذا ما سمح للمخرج بالكشف عن القدرة الهائلة على التلاعب السياسي التي كان يتمتع بها الرئيس الذي لعب دوره دانيال داي لويس… جانب لم يتم استكشافه كثيرًا من الرئيس الأميركي. في هذا السياق، لا تزال قصص النساء في السينما البيوغرافية تكاد تقتصر في معظمها على الملكات والأميرات، مع مسحة تاريخية (ماري أنطوانيت، الملكة إليزابيث، الاميرة ديانا/ الملكة فيكتوريا، كليوباترا…)

إذًا، باتت أفلام السير الذاتية اليوم موجودة تقريبًا للترفيه، وليس للتدريس أو تقديم الدقة التاريخية. حتى مع وجود الدقة، يجب أن تحكي قصة تجذب المشاهد. إن وضعها الواقف على حدود موضوعات عديدة، وكذا تعدد الطرق السردية وتحديات تكييف الحياة الموثقة تاريخيًا لأجل وسيلة سمعية بصرية، أي تحويل «المُعاش» إلى صور ومشاهد، يشكل تحديًا لصنّاع الأفلام.

ونظرًا إلى المحدودية الزمنية للقصة، يواجه صانعو الأفلام مهمة الاختيار والهيكلة والتفسير. يتعين على صانع أفلام السيرة الذاتية إذن، أن يتخذ بعض القرارات: إما أن يروي قصة الشخص من دون أي شيء سوى حقائق وجداول زمنية دقيقة تاريخيًا بينما يحاول صنع فيلم جذاب، أو يتلاعب بالحقائق والأحداث والجداول الزمنية بطريقة لا تجعله «يخون» جوهر الشخصيّة.

الأول، سيصنع فيلمًا طويلًا جدًا (بلغت مدة فيلم «نابليون» لغانس بنسخته النهائية تسع ساعات ونصف الساعة) يمتحن قدرة التحمّل حتى لدى أكثر رواد السينما شجاعةً، بينما يروي الثاني السرد في وقت عرض أقصر، مع الحفاظ على اهتمام المشاهد، والبقاء مخلصًا لجوهر الشخصية التي يقارب سيرتها. وهناك خيار ثالث يتعلّق بخلط الأحداث أو تكثيف الجداول الزمنية، أو تجنب تفاصيل محددة، أو الحصول على حق فني في إضافة طابع درامي على مجموعة من الأحداث.

تعشق هوليوود أفلام السيرة الذاتية، وتنفق ميزانيات هائلة على ممثلين وممثلات مشهورين كعامل جذب. لكن شباك التذاكر لا يدعم دائمًا هذه الأفلام، ونادرًا ما تنجح في احتلال المراكز الأولى. ولكن يتم تعويض قلة الاهتمام من الجمهور خلال موسم الجوائز (كما يحصل اليوم). في حالة إنتاجات هوليوود، تتضاعف فرص الفوز بجائزة الأوسكار إذا كان الفيلم سيرة ذاتية (اثنان من الأفلام العشرة المرشحة لأفضل فيلم هذه السنة هي أفلام سير ذاتية: «أوبنهايمر» الذي يُتوقع أن يحصل على التمثال الذهبي، وفيلم «مايسترو»، ناهيك عن جوائز التمثيل). 

من النادر أن نسمع أحد المخرجين يقول إن هدف الفيلم هو أن يكون دقيقًا تاريخيًا بنسبة 100 في المئة. لم يقم ستيفن سبيلبرغ بتقسيم طفولته إلى تفاصيل دقيقة في «آل فيبلمان» (2022)، بل أراد ببساطة مشاركة قصته. قرأت صوفيا كوبولا كتاب «ألفيس وأنا» لبريسيلا بريسلي وجاءها الإلهام لتروي قصة بريسيلا في فيلم «بريسيلا» (2023). مَن يريد المعلومات التاريخية الدقيقة وتفاصيل الحياة، يمكن أن يسمع نصيحة واكين فينيكس الذي قال في مقابلة مع مجلة «فولتشر»: «إذا كنت تريد حقًا أن تفهم وتعرف من هو نابليون، عليك على الأرجح أن تدرس وتقرأ بنفسك». وفي مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز»، أشار ريدلي سكوت إلى مشهد في فيلم «نابليون»، حين تطلق مدافع نابليون النار على أهرامات مصر، وهو ما لم يحدث في الحقيقة. يقول سكوت: «لا أعرف إذا كان نابليون قد فعل ذلك، لكنها كانت طريقة سينمائية سريعة للقول إنه استولى على مصر». معلومة تاريخية مكثّفة في لحظة واحدة. الحقائق بسيطة والذكريات جافة، لكن ليس هناك وسيلة أفضل من السينما لرسم صورة لتلك الذكريات أو الحقائق.

اقرأ أيضا: هل تعكس أوسكار أفضل فيلم دولي حقيقة السينما العالمية؟

شارك هذا المنشور