لم تكن السينما في لبنان يوماً أداةً أو وسيلةً أساسية للتغيير أو للحفاظ على الذاكرة. لم تلعب دوراً حيوياً في التغييرات السياسية والاجتماعية، هي ليست هوية أو أداة بحث، ولا تملك في يدها ثقلاً ثقافياً واجتماعياً. لكن خلال الحرب الأهلية اللبنانية، لعبت، إلى حد ما، دوراً مهمّاً في وقت قصير. آنذاك، كان مارون بغدادي وجوسلين صعب وغيرهما من الرعيل الثاني من المخرجين اللبنانيين، يؤمنون بدور السينما التي كانت وسيلةً لنقل الواقع والتعبير عن أنفسهم وأسئلتهم ومخاوفهم. بمعنى آخر، كانت ضرورية لهمّ وللمجتمع ككل. بعد الحرب لغاية اليوم، فقدت السينما اللبنانية الكثير. اختلفت الرؤية، وتبدّد الاهتمام بالفن السابع، ليُصبح مجرد وسيلة ترفيهية مع استثناءات لا تتعدى أصابع اليدين. أحد هذه الاستثناءات، وأهمها، وأجملها، هو فيلم «بيروت الغربية» (1998)، للمخرج زياد دويري.
في 13 أبريل 1975، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية. هذا اليوم سيغيّر، إلى الأبد، حياة طارق (رامي دويري) وعمر (محمد شماس)، الشابين المسلمين اللذين يعيشان في الجانب الغربي من بيروت، بينما يعيش المسيحيون في جانبها الشرقي وفق معادلة الكانتونات التي أرستها الحرب الأهلية. أُغلقت المدارس، وأصبح العنف بالنسبة إليهما شيئاً يشبه اللهو تقريباً. دخول ميّ (رولا الأمين) المراهقة المسيحية إلى حياتهما، يجعلهما يدركان واقعهما أكثر. أثناء الصراع، يحاول الثلاثة عيش حياة طبيعية وهادئة وعدم ترك الحرب تؤثر عليهم، وأيضاً الوقوع في الحب. براءتهم الأولى تقودهم إلى العيش بلا هموم، بنظرة مليئة بالحيوية والفكاهة والمغامرة. يتجول الثلاثة في أنحاء المدينة ويهربون بشكل عشوائي في شوارعها، يقومون بتصوير ما يرونه بكاميرا «سوبر 8»، مما يحوّل كل شيء إلى نوع من ملعب عبثي استثنائي. لكن شيئاً فشيئاً، ستتسلّل إليهم دوامة العنف، تقلب حياتهم وحياة عائلاتهم مع عواقب مأساوية. يُظهر الفيلم التغيير الذي مرّ به هؤلاء المراهقون خلال الحرب، وفقدان براءتهم والانتقال إلى مرحلة النضج في هذه الظروف الخاصة.
ولد زياد دويري عام 1963، عاش في لبنان حتى عام 1983، عندما كانت بيروت تعيش عنف الحرب الاهلية. في سن العشرين، سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية لدراسة السينما في جامعة سان دييغو. عمل كمساعد كاميرا أول مع المخرج كوانتن ترانتينو في أفلام شهيرة مثل «كلاب المستودع» (1992) و«بالب فيكشن» (1994)، و «جاكي براون» (1997). في هذه الاثناء كان يكتب سيناريو فيلمه الأول «بيروت الغربية». عاش دويري فترة المراهقة خلال الحرب، لذلك فإن الفيلم أشبه بسيرة ذاتية، يكون فيها طارق، صنّو المخرج، وتسود فيه الذكريات السعيدة على تلك الأليمة.
من دون أن يخون جدية الحرب وحقائقها، يأخذ دويري الأمر بسخرية صحية، يمرّر الفكاهة من خلال بهجة الحياة في عيون المراهقين. يدمج الجانب الإيجابي من طبيعة الحياة، والرغبة في العيش في سياق الموت والدمار. هرب دويري من الدراما كما من فكرة الخير والشرّ.
في «بيروت الغربية» يوجد ألم، لكنه ليس الموضوع، هناك أسى، ولكنها ليست المشكلة. الموضوع هو الإنسان، والمشكلة هي العنف السياسي أو الديني أو الاجتماعي الذي يتعرض له، وكيفية تأثيره على العائلة والصداقة والأمل والولاء والحب. يمزج زياد في فيلمه مشاهد بسيطة وفعالة مما صوّره المراهقون بكاميرتهم، كأنه هو من كان يصوّرها خلال الحرب، بدت كأنها شظايا من أفلام وثائقية عن تلك الفترة، مما يضفي جاذبيةً مرئيةً. يُظهر بلقطات صغيرة الخصائص الإنسانية والاجتماعية والدينية، ينتقد بلطف وبروح دعابة التعصب الديني والسياسي.
يلعب دويري في الفيلم على التناقضات، رياض (جوزيف بو نصار) والد طارق، كان ثورياً أيام شبابه، وها هو اليوم يرى كيف تشهد الحرب على الانهيار الكامل للأيدولوجيات. من ناحية أخرى، يختلف موقف الأم هالا (كارمن لبّس). هي الحامية وتريد الهجرة وإنقاذ العائلة، بينما الأب المبدئي يرفض ذلك ويريد فقط البقاء وانتهاء حلقة الجنون. ومن ناحية أخرى يفكر والد عمر (عمر ميقاتي) بشكل مختلف، فهو يعتقد أنّ عائلته يجب أن تتكيف مع الوضع الإسلامي الجديد الذي فرضته معادلات الحرب والصراع. رغم هذه الجدية، لا يزال «بيروت الغربية» قصة مراهقة، يكتشف فيها الصغار مسؤوليات وعالم وعواطف الكبار. فيلم مؤطر بطريقة استثنائية، ينتهي ليكون وثيقة ثمينةً لأولئك الذين لم يعيشوا فترة الحرب في لبنان.
أكثر ما يلفت النظر في «بيروت الغربية» هو حيوية القصة وحداثة الهيكل السردي. يبرز الفيلم واقع لبنان الاجتماعي والحيوي. لذلك، لا تبدو مراهقة طارق وعمر وميّ مختلفة تماماً عن تلك التي عاشها أقرانهم في أي بلد آخر: الصحوة الجنسية، الحب الأول، الصداقة، الترفيه المجاني، الشغف بالموسيقى العصرية والسراويل الواسعة. ولكن في الوقت نفسه، هؤلاء المراهقون هم الذين خاضوا الحرب عن طريق الخطأ، عايشوها من دون التورط فيها، تحمّلوا وطأة المأساة وجسّدوا روحاً تحرّرية يتماهى معها المخرج. نجح دويري في فيلمه الأول في تقديم بيروت وحربها بطريقة أصيلة غير نمطية، وبكل الروح الشرق أوسطية.
في «بيروت الغربية» يوجد ألم، لكنه ليس الموضوع، هناك أسى، ولكنها ليست المشكلة.